أسبغ الله تعالى على يوم عرفة ما شاء من الفضل والمنح،وأكمل في مثله في العام العاشر الهجري لهذه الأمة دينها بحيث صارت جملة الشريعة الحاصلة بالقرآن الكريم والسنة الشريفة وافية في كل عصر من العصور بما يحتاجه الناس في مختلف الأمور، وهذا هو المراد بقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[البقرة: 185]. كما يمتاز يوم عرفة على سائر الأيام بأنه موسم للفضل الإلهي واللطف الرباني؛ فإن الله سبحانه يتجلى في هذا الموقف الجامع على عباده من الحجاج بالكرامة والرضوان والمغفرة والعتق حتى يحلهم من كرامته ورضوانه محل الشيء المُباهَى به، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا» (مسند الإمام أحمد) لقد جعل الله تعالى يوم عرفة وهو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة من كل عام هجري ميقاتا زمانيًّا يقع فيه أهم أركان الحج، وهو الوقوف بعرفة الذي يُعَدُّ ركن الحج الأعظم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الْحَجُّ عَرَفَةُ»(سنن الترمذى) وقد أجمع المسلمون على صحة الوقوف بأي جزءٍ من عرفة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَقَفْتُ هَا هُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ»، وتبدأ حدود وادي عرفات من نهاية الحرم وبداية الحِلِّ، وهي حدود معروفة معلومة أجمع المسلمون عليها، إلا ما يُحكى من خلافٍ ضعيفٍ في نَمِرَة، حتى نَصَّ الفقهاء على أن مسجد إبراهيم وهو المسمَّى ب«مسجد نَمِرة» ليس كله من عرفة، بل مُقدَّمُه من طرف وادي عُرَنَة وآخره في عرفات. ويجب على الحجاج تنظيم الوقوف والنفرة انطلاقا من وجوب المحافظة على النفس مِن الخطر أو توقعه؛ لأن الزحام الشديد الذي عليه الحجُّ في زماننا والذي تحصل فيه الإصابات والوفيات سواء أكان حاصلًا للحاج في مكانه أم متوقَّعَ الحصول في المكان الذي سيذهب إليه- يُعَدُّ مرخِّصًا شرعيًّا للحُجَّاج أن يتخيروا من أقوال الفقهاء خاصة المسائل الخلافية ما هو أنسب بالحفاظ على أمنهم وسلامتهم. وقد حثَّ الشرعُ الشريفُ المسلمَ الذي لم يكتب له الحج في هذا العام على الاجتهاد والمسارعة لطلب جزيل الأجر والنفحات الإلهية المبثوثة في هذا الزمن المبارك من خلال التقرب إلى الله تعالى بأنواع البر والأعمال الصالحة، خاصة الصيام؛ فقد صامه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه كاشفًا عن الثواب المترتب على ذلك من تكثير للحسنات ورفعة في الدرجات كما في قولِه صلى الله عليه وسلم: «صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يُكَفِّر السنة التي قبله، والسنة التي بعده»(صحيح مسلم) ويستحب أيضًا إحياء ليلته ونهاره بالإكثار من الدعاء والذكر والاستغفار والتضرع إلى الله الرؤوف، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»(سنن الترمذى) هذا الفضل العميم المبثوث في يوم عرفة يرشد المسلم المخلص إلى سمات طريق الله تعالى وسبل تحصيل رضوانه واغتنام نفحاته العظيمة، كما يكشف عن المقاصد السامية التي يشملها منسك الوقوف بعرفات الذي يمثل عبادة جامعة تصور للحجاج حسًّا موقفهم أمام ربهم يوم القيامة حيث البعث والحشر، فقد اجتمعوا في هذا الموقف المهيب شعثًا غبرًا، مقبلين على ربهم متجردين من زينة الحياة الدنيا ومفاخرها؛ وهي تمثل في ذات الوقت تجربة تربوية حقيقية في نفوس المسلمين من شأنها ترسيخ التجرد التام والإيمان الصادق واللجوء إلى الله وحده، وحثّ المسلمين على ضرورة تقوية الروابط فيما بينهم، وإرشادهم إلى الاجتماع حول العروة الوثقى الذي لا انفصام لها ولا تفاضل فيها إلا بالنيات الخالصة والعمل الصالح. رزقنا الله وإياكم من فضائل ونفحات يوم عرفة . وكل عام ومصر والأمة العربية والإسلامية بخير . لمزيد من مقالات د.شوقى علام مفتى الجمهورية