وزارة البترول توقع 4 مذكرات تفاهم لزيادة أنشطة استكشاف وإنتاج وتنمية الحقول    نائب محافظ المنوفية: تكثيف العمل لإنهاء مشروعات «حياة كريمة» في أشمون والشهداء    بوتين يقترح إنشاء منصة استثمارية للدول الأعضاء في «بريكس»    الأمم المتحدة: إسرائيل رفضت جميع محاولات إدخال المساعدات لشمال غزة    وكالة الاستخبارات الكورية الجنوبية: كوريا الشمالية أرسلت 3 آلاف جندي إلى روسيا    كهربا يطلب الاعتذار بعد أزمته في الأهلي وقرار جديد من محمد رمضان    وزير الثقافة يتدخل لإزالة الألوان من على باب جنينة الأسماك    المؤبد لخراط معادن لاتهامه بالاتجار في المواد المخدرة بالخانكة    مهرجان القاهرة السينمائي ينظم ورشة للتمثيل مع مروة جبريل    محافظ الغربية: قوافل طبية متكاملة تصل إلى أطفال مدارس زفتى ضمن مبادرة «بداية»    «صحة الشرقية» تكشف عن أبرز 3 خرافات بشأن الإنفلونزا الموسمية    محافظ البحيرة تتفقد عددا من المدارس لمتابعة سير العملية التعليمية| صور    إقبال جماهيري لعرض «الشاهد» ضمن فعاليات مهرجان المسرح العربي    بث مباشر.. مؤتمر صحفي لرئيس الوزراء عقب الاجتماع الأسبوعي للحكومة    توقف الملاحة في ميناء البرلس لمدة 3 أيام    الشكاوى الحكومية: نتلقى 13 ألف مكالمة يوميًا    التأمين الصحي على الطلاب وإنشاء 8 جامعات.. قرارات وزير التعليم في مجلس الجامعات الأهلية    ضمن مبادرة بداية.. مياه الغربية تواصل تقديم الأنشطة الخدمية    إسرائيل تعترض طائرة مسيرة في الأجواء السورية وسط تصاعد التوترات    أحمق يقسم البلد.. ترامب يهاجم أوباما بعد عقد الأخير حملة انتخابية لدعم هاريس    لايبزيج ضد ليفربول.. 5 لاعبين يغيبون عن الريدز في دوري أبطال أوروبا    وزيرة الخارجية الألمانية في بيروت: يجب إيجاد حل دبلوماسي بين لبنان وإسرائيل    جامعة قناة السويس تتقدم 157 مرتبة عالمياً في التأثير العلمي    كرة نسائية - دلفي يعتذر عن عدم استكمال الدوري المصري    «زيارة مفاجئة».. وزير التعليم يتفقد مدارس المطرية | تفاصيل    وزيرة التضامن تشارك في جلسة رفيعة المستوى حول برنامج «نورة»    تعاون بين محافظة أسيوط والغرفة التجارية لإقامة معرض دائم للسلع الغذائية    مصرع شخص إثر سقوط أسانسير فى التجمع    تحرير 1372 مخالفة للممتنعين عن تركيب الملصق الإلكتروني    لرفضه بيع قطعة أرض.. مزارع يطلق النار على زوجته ويتهم ابنه    مصرع شاب وإصابة طفلين بانقلاب «توكتوك» في مصرف مائي ببني سويف    وزير الصحة: وصول عدد خدمات مبادرة «بداية» منذ انطلاقها ل62.7 مليون خدمة    محافظ بنى سويف يعقد اللقاء الأسبوعى بالمواطنين.. تعرف على التفاصيل    حفل لأشهر الأعمال المصريه واليابانيه والعالمية بدار الأوبرا الجمعة    برغم القانون.. الحلقة 29 تكشف سر والدة ياسر والسبب في اختفائها    هاني عادل ضيف «واحد من الناس» على قناة «الحياة»    صلاح السعدني.. صدفة منحته لقب «عمدة الدراما»    أوركسترا القاهرة السيمفوني يقدم حفلا بقيادة أحمد الصعيدى السبت المقبل    منها برج العقرب والحوت والسرطان.. الأبراج الأكثر حظًا في شهر نوفمبر 2024    «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا».. موضوع خطبة الجمعة القادمة    الضرائب تكشف تفاصيل حزم التيسيرات الجديدة    قرارات حكومية جديدة لمواجهة المتاجرة بالأراضي الصناعية (تفاصيل)    في اليوم العالمي للروماتيزم، أهم أعراض المرض وطرق اكتشافه    إيهاب الكومي: أبوريدة مرشح بقوة لتولي رئاسة الاتحاد الإفريقي لكرة القدم    "فولفو" للسيارات تخفض توقعاتها لمبيعات التجزئة لعام 2024    منها انشقاق القمر.. على جمعة يرصد 3 شواهد من محبة الكائنات لسيدنا النبي    «الإفتاء» توضح حكم الكلام أثناء الوضوء.. هل يبطله أم لا؟    التعليم تعلن تفاصيل امتحان العلوم لشهر أكتوبر.. 11 سؤالًا في 50 دقيقة    طارق السيد: فتوح أصبح أكثر التزامًا واستفاد من الدرس القاسي.. وبنتايك في تطور واضح مع الزمالك    لماذا العمل والعبادة طالما أن دخول الجنة برحمة الله؟.. هكذا رد أمين الفتوى    نجاح عملية جراحية لاستئصال خراج بالمخ في مستشفى بلطيم التخصصي    تلبية احتياجات المواطنين    موعد إعلان حكام مباراة الأهلي والزمالك في السوبر المصري.. إبراهيم نور الدين يكشف    تعرف علي مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 23-10-2024 في محافظة البحيرة    «ماذا تفعل لو أخوك خد مكانك؟».. رد مفاجيء من الحضري على سؤال ميدو    الخطوط الجوية التركية تلغى جميع رحلاتها من وإلى إيران    مدرب أرسنال يصدم جماهيره قبل مواجهة ليفربول بسبب كالافيوري    ملخص أهداف مباراة ريال مدريد ضد بروسيا دورتموند في دوري أبطال أوروبا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤى نقدية
حوار فكرى
نشر في الأهرام اليومي يوم 13 - 07 - 2018


الصديق العزيز الأستاذ الكبير الدكتور جابر عصفور
تحياتى وإعزازى وشكرى وتقديري
وشكرى لك قبل أن يكون واجبًا، هو إحساس عميق بالامتنان، ممتن لوقتك الذى أعطيته، ولاهتمامك العميق بالكتاب الذى وضعتُه، ولإطرائك الكريم، وما أسبغته على الكتاب من فضل ملأنى بالعرفان والتقدير.
وهكذا فإن التقدير مقرون وممتزج بالشكر والامتنان والعرفان، والتقدير ليس غريبًا عليك، فقد حفرت لنفسك بعلمك وثقافتك وأسلوبك، مكانة فريدة متميزة فى مقدمة مبدعينا من النقاد.
ونظرًا لمكانتك، أستأذنك فى إيضاح رأيت من واجبى أن أبديه، بشأن «الإجماع» كمصدر متفق عليه من مصادر التشريع الإسلامي.
هذا المصدر ليس ابن اليوم، ولا هو من صنع الأزهر الشريف، وإنما هو «مصدر» متفق عليه من مئات السنين، وإن هُجِر فى عهود الاستبداد، لأن المستبدين لم يرضوا - ولا يرضون- أن يتدخل أحد لتغيير قراراتهم وأوامرهم، أو مراجعتهم فيها، حتى لو كانت المراجعة صادرة عن «الإجماع» الذى اتفق عليه علماء الأمة، وفى جميع الأمصار.
........................................
حقيقة الإجماع
لم يكن إجماعًا ما صدر عن أفراد بذواتهم فى هيئة بذاتها فى شأن الشيخ على عبد الرازق وكتابه المستنير عن» أصول الحكم فى الإسلام»، وقد أنصفتُه فى الفصل الأخير من كتاب «دماء على جدار السلطة» الذى عقدته لإثبات أنه «لا أصل» للخلافة فى الإسلام، وأن القرآن الكريم خلا من الاستخلاف، كما خَلت منه السنة النبوية، وأن النبى - عليه السلام - فارق إلى الرفيق الأعلى دون أن يستخلف أحدًا على الإطلاق، وأن آية الآيات على ذلك، الخلاف الذى شجر يوم «سقيفة بنى ساعدة»، ولم يَدَّعِ فيه أحد أن الرسول - عليه السلام - قد استخلف أحدًا، وإنما رشح عمر أبا عبيدة بن الجراح فرفض، ورشح أبو بكر كليهما للأنصار ليختاروا أحدهما فأبيا معًا، ولو كان النبى قد استخلف أحدًا لما اجترأ أحد من الأنصار ولا من هؤلاء المهاجرين، على عصيان الأمر النبوي. نعم، لا أصل للخلافة فى الإسلام. وما قاله على عبد الرازق، وهوجم بسببه، كتبه باستفاضة أستاذنا الجليل عبد الحميد متولي، ولم يملك أستاذنا الجليل الدكتور عبد الرزاق السنهورى - رغم اقتناعه بفكرة الخلافة - إلا أن يقر بأن ما كان بعد زمن الراشدين هو «خلافة ناقصة»، أى ليست خلافة،؛ لأنها فقدت الانتخاب بالبيعة، وفقدت الشوري، وفقدت المساواة، وقامت على التوريث والاستبداد.
أما الأستاذ العقاد، فمجمل ما أبداه، أن الإسلام قد وضع مبادئ عامة، ولم يضع نظام حكم. وما كتبه الشيخ على عبد الرازق، وأيده هؤلاء وأيدتموه وأيدناه، قد سبق إليه العبقرى ابن خلدون فى مقدمته.
ولكنى أعود إلى «الإجماع»، ولك أن تعرف أن من نبهنى إلى قيمته وتحالف الحكام المستبدين ضده، هو الشاعر الفيلسوف محمد إقبال. ما حدث ضد الشيخ على عبد الرازق لم يكن «الإجماع» المعنِى فى الشريعة الإسلامية. فالإجماع ليس إجماع أفراد بذواتهم، ولا هيئة بعينها، ولا قرار مجلس إدارة أو نقابة، ولا حكم محكمة قضت بالإعدام المشروط له الإجماع. الإجماع فى الشريعة الإسلامية، هو كالمستفاد من حديث النبى - عليه السلام -: «لا تجتمع أمتى على ضلالة». إنما هو «إجماع» الأمة الإسلامية ممثلة فى اتفاق كل العلماء المجتهدين فيها، فى عصر من العصور بعد النبوة، على «حكم شرعي»، وليس حكم هيئة أو مجلس أو محكمة. وأن يكون هذا «الحكم الشرعي» فى أمر من الأمور العملية التى ينصرف إليها التشريع، وليس الجزاء الذى وقع افتئاتًا- لأسباب غير مجهولة- على الشيخ على عبد الرازق، ومن أجله استقال أستاذنا الجليل عبد العزيز فهمى من وزارة الحقانية. وكانت استقالة عبد العزيز فهمى حدثًا مدويًا لا يزال قدوة للأحرار. وكان ما وقع للشيخ على عبد الرازق، جريرة كبري، لا صلة لها ب «الإجماع» كمصدر من مصادر «التشريع» وليس الثأر أو العقاب.
الإجماع كنز من كنوز التجديد فى الإسلام
«الإجماع» كنز من كنوز قدرة الإسلام على التجديد وملاحقة التطورات فى إطار القواعد الكلية والمبادئ الأصولية التى سنها القرآن المجيد والسنة النبوية.. فهو مصدر من مصادر التشريع الإسلامى يلِى مباشرة نصوص الكتاب والسنة، ويعتمد عليها، ويفتح الباب للنظر والتأمل والاجتهاد الذى يجد سنده فى اتفاق «الإجماع» على القاعدة أو الحكم المُستنبَط من أصول ونصوص الشرع الحكيم. والإجماع شرعًا- هو اتفاق المجتهدين من الأمة بالقول أو الفعل أو التقرير، فى عصر من العصور بعد النبي-صلى الله عليه وسلم- على حكم شرعى فى أمر من الأمور العملية دينى ودنيوى وعقلى ولغوي.. فلا موضع للإجماع إلا بعد انقطاع المصدر الثانى للشريعة.. هذا الإجماع هو باتفاق علماء المسلمين حجة، يلقى سنده فى القرآن المجيد، وفى السنة النبوية. فى الحديث الشريف، أن «لا تجتمع أمتى على ضلالة»، وأن «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن» إلى أحاديث أخرى متفق على ثبوتها وصحتها.
الإجماع مصدر غنى مانح من مصادر الشرع الإسلامي، إليه ترجع قاعدة أن الجدة تأخذ السُّدس، تنفرد به الواحدة وتشترك فيه الأكثر من واحدة، وإليه أيضًا عدم جواز الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها، وعلى أن الإخوة والأخوات لأب يقومون مقام الأشقاء إن لم يكن أشقاء، وعلى أن الأراضى المفتوحة لا توزع كسائر الغنائم والأنفال.. وإلى الإجماع أيضًا قاعدة أن سداد دَين المتوفى من ماله مقدم ليس فقط على ميراث التركة، وإنما أيضًا على تنفيذ وصيته، وإلى الإجماع توريث بنت الابن مع البنت.. إلى غير ذلك من الأمثلة والأحكام التى كان مردها إلى «الإجماع».
لماذا هُجِر الإجماع؟!
هذا الباب المفتوح لإثراء أحكام الدين، والتجديد وملاحقة تطورات الحياة، لا يكون إلا بإجماع المجتهدين إجماعًا يستند إلى القواعد الكلية والأصول القرآنية والنبوية.. ولكن للأسف صار هذا المصدر مهجورًا فى عصور الاستبداد، تتجمع غيوم كثيرة حول مآرب هجرانه، فى مقدمتها أغراض الحكام والملوك والأمراء فى عصور الهبوط والاضمحلال التى قذفت إلى الساحة بنظريات الحكم المطلق الذى يستند كذبًا- إلى الحق والسلطان الإلهي، وخشى المستبدون أن تتصادم رغائب ومطامع المُلك المطلق مع الإجماع.. الأصل الثالث الثرى المانح من أصول التشريع، وأعظم السنن التى تفتح أبوابًا لغناء وثراء وتجدد الشريعة التى لا يريد المستبدون لها أن تنفتح.
ملاحظة لا تفوت
الذين صادروا على الإجماع ودفعوا إلى هجرانه، هم الحكام المستبدون، ومن دار فى فلكهم فى عصر الهبوط والاضمحلال. وتذرَّع هؤلاء وأولاء بأن الإجماع بعد عصر النبوة قد بات مستحيلًا؛ لتفرق الفقهاء المجتهدين فى البلاد والأمصار، واستحالة أن يتلاقوا، ناهيك بالتلاقى على حكم واحد!. هذه الذريعة لا تبرر «مصادرة» الإجماع كمصدر تشريعي، وإنما قصاراها وجوب التثبت من حصول الإجماع، لا إلغاؤه أو مصادرته.
تأويل مغلوط
والذين تأولوا على هذا التأويل فى عصر الهبوط والجمود وتقوَّلوا هذه المغالطة، إنما تذرعوا بعلة مردودة، وصادروا على المطلوب، وأغلقوا بابًا فذًّا من أبواب التجديد ونماء الفكر والرؤية فى الإسلام. غريب أن يقبل الفقهاء هذه المقولة وأن يرددوها قديمًا، ولكن غرابة الاستسلام لها فى زماننا أكبر وأدهش. التقط فقهاء الزمن الغابر هذه المغالطة بعد عصر الاجتهاد والتدوين؛ لأن عصرهم كان عصر هبوط وانحطاط، وهيمنت فيه التيجان ونظريات المُلك المطلق هيمنة أغلقت الأبواب وعصفت بفقهاء ونكلت بهم وقتلت بعضهم صبرًا، فخاف الكل انصياعًا لحكمة رأس الذئب الطائر!. بيد أن زماننا الآن غير ذلك الزمان، ولم يعد بمستطاع حاكمٍ مهما كان استبداده أن يخيف جمهور الفقهاء المجتهدين على امتداد العالم الإسلامى الذى ملأ الدنيا، وشغل أقطارًا متعددة، من المحال على حاكم أن يبسط عليها كلها سطوته وقبضته واستبداده، أيًّا كان نفوذه، فى الوقت الذى تماحت فيه تمامًا ذريعة تفرق الفقهاء المجتهدين فى الأقاليم والأمصار، فعالم اليوم الذى اقتحم الفضاء، صار قرية صغيرة يستطيع كل علماء الدنيا أن يلتقوا يوميًّا على الشاشات وموجات الأثير، وأن يتبادلوا الآراء والفتاوى والأحكام، وأن يتناوبوا معالجة المشاكل وطوارئ الأحداث والقضايا، وأن يتبادلوا الرأى والحلول فيها، وأن يحصوا مقدار ما يتحقق أو لا يتحقق من إجماع أو أغلبية أو أقلية فى مسائل غاية فى الأهمية يحار فيها الناس ولا تتحمل الإبطاء والتراخى أو الانتظار.
هيئات عديدة
فى مصر: أحد أقطار الإسلام: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ومجمع البحوث الإسلامية، وهيئة كبار العلماء، ودار الإفتاء، والأزهر الشريف بهيئاته، وجامعة الأزهر بمعاهدها وكلياتها وأساتذتها، وفى السعودية رابطة العالم الإسلامي، ونظائر لكل هذه التجمعات والهيئات والجامعات الإسلامية فى شتى بقاع وأقطار العالم الإسلامي.. وهؤلاء جميعًا وفيهم العلماء المجتهدون، قادرون على طرح القضايا والمشاكل، وتجميع البحوث، وتبادل الرأى على مستوى علماء العالم الإسلامى المجتهدين لوضع الحلول والأحكام من واقع الأصول والمبادئ والقواعد الكلية.
ومن الغريب اللافت أن هؤلاء جميعًا يجتمعون بالفعل فى أكثر من مؤتمر إسلامى كل عام، فى أحد أقطار العالم الإسلامي، ويعقدون حلقات نقاش ويتباحثون ويتناولون ويتبادلون البحوث والآراء فى أهم وأعوص القضايا، وهو ما يمكن رصده وتجميعه لمعرفة هل تحقق أو لم يتحقق به إجماع يضيف ويجدد فى الشريعة ما تعالج به قضايا اليوم ومستحدثاته. ماذا يقول علماء الإسلام المجتهدون فى أقطاره جميعًا- بالنسبة للفارق بين الانتحار والاستشهاد؟، وما تكييف ما يبذله أبناء الأوطان فى الدفاع عن أرواحهم وممتلكاتهم وثرى أوطانهم؟، وهل يبيح الدين أو لا يبيح أن تمتد عمليات المقاومة والكفاح المشروعة إلى الأبرياء من الأغيار أو النساء والشيوخ والأطفال؟، وما الرأى بالنسبة للموقف الذى على المسلمين أن يتخذوه حيال الغزاة الذين ينتهكون قطرًا من أقطار الإسلام، هل التعاون مع هؤلاء الغزاة مباح أو غير مباح يرفضه الدين ويأباه؟، وما الحل حين تشجر المعضلات، والحروب أحيانًا، بين قُطرين أو أكثر من أقطار العالم الإسلامي.. ماذا على مجموع المسلمين أن يتخذوه؟، وما موقف الدين فى الفوائد المصرفية وصناديق التوفير وشركات وعقود التأمين؟.. وكلها قضايا عصرية طال فيها الجدال وتحتاج إلى حكم إجماع يرتضيه ويطمئن إليه جمهور المسلمين، ما حكم الدين فى الشورى الآن فى زماننا؟، وما الذى تبيحه أو لا تبيحه المبادئ العامة التى وردت بالقرآن المجيد والسنة النبوية عن الشورى تاركة للمسلمين تحديد أُطُرها وتفاصيلها ومعالمها ومعطياتها تبعًا لتغير ظروف الزمان والمكان؟!
ليس مقصودى هنا، ولا يتسع المجال، إحصاء كل القضايا والمشاكل الحيوية التى ينبغى ويجب أن يعرض لها العلماء المجتهدون فى العالم الإسلامى برمته، ليستنبطوا الحلول والأحكام والقواعد، ومن واقع المبادئ والأصول الكلية، وليتواصلوا تواصلًا يتغيا الاستهداء إلى «إجماع» تستنير به الأمة الإسلامية، وتتعرف خطاها، وتستنقذ نفسها من الغلاة والمتنطعين، ومن المتربصين بالإسلام والمسلمين، ولعل جمهور هؤلاء العلماء الذين لهم قوة أدبية هائلة تتجاوز حدود الأقطار، يحددون للمسلمين القول الفصل فى تجديد الفكر والخطاب الديني، وكلاهما يخدم الآخر، فالفكر يحتاج إلى الخطاب لنقله وتوصيله، والخطاب قيمته فى الفكر الذى يثريه.
صديقى العزيز...
أردت فقط أن أزيل قلقك، وأنا أؤكد لك أن الإجماع الشرعى المقصود، ليس هو ما تخشاه. ما تخشاه هو مجمع وتكاتف الشر، وليس هذا هو الإجماع كمصدر من مصادر التشريع، كشأن البرلمانات بل أكثر ضمانًا، وليس إجماع طغمة توافقت على العبث والإفساد.
المُحب
رجائى عطية
ولنا تعليق:
الصديق العزيز والأستاذ الكبير/ رجائى عطية
شكرى وامتنانى الكبير لما أرسلتَه من تعقيب على ما كتبتُه عن كتابك القيم عن «تجديد الفكر والخطاب الديني». والحق أن رسالتك ملأتنى ثقة بأهمية الحوار الخلاق بين الباحثين، أو ضرورة قيام هذا الحوار على الإيمان بحق الاختلاف واحترام الرأى المختلف فى ذاته، وذلك هو معنى الحوار بين الكبار وليس الصغار، ولذلك اسمح لى بأن أعقِّب على ما قلتَ بما يلى من نقاط:
أولًا: الحق أننى أعرف أن «الإجماع» أصل من أصول التشريع، وأنه ورد فى أحاديث الرسول - عليه أفضل الصلاة والسلام-، وكُتُب الفقهاء الأُوَّل، وكُتُب أصول الفقه على السواء. لا أجادل فى ذلك ولا أُنكره، ولكنى أضعه موضع المساءلة من حيث هو مبدأ أساسى ينبغى التسليم به كما لو كان أصلًا من أصول الإسلام. وأما أسباب المساءلة فمتعددة، فالإجماع على نحو ما يراه صديقى الأستاذ رجائى عطية- بوصفه كنزًا من كنوز التجديد فى الإسلام- هو اتفاق المجتهدين من الأمة بالقول أو الفعل أو التقرير فى عصر من العصور بعد النبى صلى الله عليه وسلم، على حكم شرعى فى أمر من الأمور العملية الدينية والدنيوية والعقلية واللغوية، لكن يبقى السؤال الأهم: متى حدث هذا الإجماع فعلًا بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم؟. فبعد وفاة النبى لم يختلف المسلمون كثيرًا حول من يتولى أمرهم، فقد تولى أمرهم صاحب رسول الله، وهو أبو بكر الصديق، الذى أوكل المهمة بعده إلى عمر بن الخطاب الذى أوصى المسلمين باختيار واحد من ستة من كِبار الصحابة، وهؤلاء الستّة هم: عليّ بن أبى طالب، عثمان بن عفان، عبد الرحمن بن عوف، الزبير بن العوام ، سعد بن أبى وقاص، طلحة بن عبيد الله، فاختاروا عثمان بن عفان، الذى سرعان ما تعددت الفتن فى عصره، وثار عليه الثوار من ولايات الإسلام المختلفة بحجة أنه وضع آل أبى معيط على رقاب الناس، فانتهى الأمر إلى ما انتهى إليه فيما عددناه بمثابة الفتنة الكبرى فى تاريخ الإسلام، وقد قُتل عثمان سنة 36 للهجرة، وبعد وفاته مباشرة حدثت «موقعة الجمل» التى انقسم فيها الصحابة على أنفسهم، فانضم إلى قوات أمير المؤمنين «على بن أبى طالب» كل من عمار بن ياسر، والأشطر النخعي، وعبد الله بن عباس، ومحمد بن أبى بكر، بينما انضم إلى الفريق المقابل، معاوية بن أبى سفيان، وعائشة بنت أبى بكر( زوجة الرسول عليه السلام)، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وقد بلغت الخسائر فيما قيل نحو 13 ألف قتيل، وكان ذلك بعد أن تولى على بن أبى طالب الخلافة بعد أن بايعه كبار الصحابة لخلافة المسلمين التى انتقلت عاصمتها إلى الكوفة. ولم يمكث على بن أبى طالب طويلًا فى حكمه؛ إذ سرعان ما قتله عبد الرحمن بن ملجم، فانتهى بوفاته عصر الخلفاء الراشدين، ودخلنا فى عصر الدولة الأموية، ومنها إلى عصر الدولة العباسية الأولى والثانية، ومن الثانية إلى عصر الدويلات، وظل المسلمون منذ ذلك الوقت- أى بعد وفاة على بن أبى طالب- شيعًا وأحزابًا متقاتلة، فهناك الشيعة من أتباع عليٍّ وهناك السُّنة الذين قبلوا لواء الأمويين أولًا ثم لواء العباسيين ثانيًا، وعاشوا فى ظلال أعلام الملوك والطوائف أخيرًا.
ولذلك فمن الصعب أن نتصور إجماعًا مثاليًّا على ذلك النحو الذى يتصوره الأستاذ رجائى عطية على امتداد عصور الإسلام التى عرفت ما جعله هو عنواناً لكتابه «دماء على جدار السلطة»، ولذلك لم يعد من الغريب أن تلتقى هيئات إسلامية عديدة من مصر أو السعودية أو ما يغايرهما فى شتى بقاع العالم الإسلامي، أو أن نجد من علماء العالم الإسلامى المجتهدين من يضع الحلول والأحكام من واقع الأصول والمبادئ والقواعد الكلية. ومن الغريب اللافت حقًّا كما يقول الأستاذ رجائى عطية أن هؤلاء جميعًا يجتمعون فى أكثر من مؤتمر إسلامى كل عام فى أحد أقطار العالم الإسلامي، ويعقدون حلقات نقاش، ويتناولون بالبحث أهم وأعوص القضايا: مَنْ يجدد الشريعة؟ أو ما تعالج به قضايا المستحدثات، ولكن هذه الهيئات لا تصل إلى هذا الإجماع، فينتهى بها الأمر إلى تقديم توصيات غير حاسمة وغير ملزمة للمسلمين جميعًا. فما يقبله أهل السنة قد لا يقبله الشيعة، وما يقبله الشيعة قد لا يقبله الإباضية والأزارقة، وما يقبله هؤلاء جميعًا قد يختلف معه المتشددون مثل السلفية التى تزعمها ابن لادن فيما ارتكب من جرائم وحشية فى حق البشرية، أو فيما ارتكبه أبو بكر البغدادى الذى قاد داعش إلى ارتكاب جرائم وحشية ضد المسلمين أنفسهم.
ولذلك يبقى السؤال: عن أى إجماع يتحدث الأستاذ رجائى عطية؟ إن إسلام اليوم يا أخى الأستاذ رجائى ليس هو إسلام يحتكره الأزهر وحده أو تحتكره الإمامة الإيرانية وحدها، أو حتى يحتكره ممثل الأزارقة فى هذا البلد أو ممثل الإباضية فى ذلك البلد العربى الآخر. نعم لقد حاول بعض الأئمة من مشايخ الأزهر الفضلاء، كالشيخ شلتوت - رحمه الله - التقريب بين المذاهب الإسلامية، ولكنه لم يصل فى ذلك إلى منتهاه، وظل الأمر على ما هو عليه من فُرقة بين المذاهب الإسلامية أو الشيع والأحزاب الإسلامية. ولذلك فإن هذا الإجماع الذى يتحدث عنه الأستاذ رجائى عطية، إنما هو إجماع على سبيل مبدأ الرغبة وليس على سبيل مبدأ الواقع. فحلمى كحلم رجائى عطية فى أن يكون لنا إسلام إنسانى واسع لا فرق فيه بين مسلم وآخر، ويكون فيه المسلمون جميعًا إخوة، بغض النظر عن مذاهبهم وأطيافهم السياسية وعندئذ يمكن أن يتحقق فى هذا العالم المثالى هذا الإجماع الخيالى الذى يحلم به الأستاذ رجائى عطية. ولكننا للأسف لا نعيش فى عالم الخيال، وإنما نعيش فى عالم الواقع بكل تعقيداته، ولا نواجه الكون من منظور مبدأ الرغبة، وإنما من منظور مبدأ الواقع. ولذلك فنحن المسلمين شئنا أو أبينا- منقسمون إلى دول، لكل دولة منها مذهبها المغاير، حتى فى العالم العربى ستجد أن عمان إباضية وأن مصر حنفية وأن السعودية حنبلية وما بينهم أو حولهم شافعية، أو مالكية..إلى آخره. وليس الأمر فى ذلك أمر اختلاف فى مذاهب دينية قديمة فحسب، وإنما هو أمر اختلاف مصالح اقتصادية تغيرت وتباعدت خصوصًا بعد ظهور النفط فى العالم الإسلامي، وما أدى إليه ذلك من تحالفات مع القوى الرأسمالية العالمية أو تحالفاتها السياسية فى الشرق أو الغرب، وهو الأمر الذى زاد من حدة الانقسام ووسَّع من هوة الشقاق. ولذلك تجد إسلامًا إيرانيا يختلف عن الإسلام المصرى السُّني، وتجد مِن مشايخ الأزهر مَن تأخذه شدة الحماسة الدينية، فيبالغ فى منع ظهور الصحابة والأنبياء فى السينما (أفلام) والتليفزيون (مسلسلات) بينما فى إيران من سمح بظهور على بن أبى طالب وغيره من الصحابة والتابعين فى الأفلام، بينما يرفض مشايخ أهل السنة ذلك. هذا على أبسط مستوي، وهو مستوى الفن. فإذا تركنا الفن، وهو أمر هين بسيط بالقياس إلى المشكلات الاقتصادية المُلِحَّة، فسوف نجد على امتداد العالم الإسلامى من ارتبط بالشيوعية أو الاشتراكية الديمقراطية فى مقابل من ارتبط بالدول الديمقراطية فى أوروبا أو الولايات المتحدة، وربط حبال اقتصاده الوطنى باقتصادياتها المعولمة المجاوزة للقارات. وحتى ما كنا نتفاءل بوجوده من الوحدة الأوروبية التى تقوم على المصالح الاقتصادية وحدها، فإن هذه الوحدة الأوروبية سرعان ما انقسمت بعد خروج إنجلترا منها لأسباب شعبوية لا مجال لذِكرها فى هذا السياق، مع أن هذه الوحدة الأوروبية الاقتصادية ترفض إلى الآن دخول تركيا، لأن أساس الوحدة الأوروبية هو دينى فيما هو تحت القناع الاقتصادي، فتركيا دولة إسلامية، ولن يُسمح لها بأن تكون فى تجمع اقتصادى مسيحى بطوائفه المذهبية الدينية.
ثانيًا:إننى لم أكن أول من سبق إلى إنكار الإجماع على نحو ما ذكرتُه فى مقالاتي، فقد سبقنى إلى ذلك منذ قرون بعض المعتزلة مثل إبراهيم بن سيار النظام الذى زعم أن الأمة قد تُجمِع على باطل، وغيره من الفلاسفة الذين أكدوا القول بمعناه. وأخيرًا فإن المتأمل فى معنى الإجماع يجده مبدأ غير واقعى خارج المعنى الديني، فهو لا يمكن أن يكون مبدأ سياسيًّا فى عالم يسعى إلى الديمقراطية السياسية، والتنوع البشرى الخلاق على المستوى الفكرى والثقافي. وقديمًا تعلمنا أن فى اختلاف أُمَّتى رحمة، ولذلك لا أزال أرى فى الإجماع فرض رأى على الغير بحجة دينية أو بقوة قمعية عسكرية أو غير عسكرية، كما حدث فى الدولة الناصرية مثلًا، أو فى دول أمريكا اللاتينية أيام حكم الجنرالات الديكتاتوري. ولا أتصور الإجماع بعد ذلك يمكن أن يكون قائمًا فى العلوم الإنسانية، خصوصًا أن الأصل فى هذه العلوم، هو تنوع الاختلاف وتعدد الآراء، وهو الأمر نفسه الذى يحدث فى العلوم الطبيعية التى يقوم تطورها على الانقطاعات المعرفية الحاسمة فى تاريخ الثورات العلمية، ولذلك هَدمت نظرية الذرة ما كان قائمًا قبلها، كما هَدمت النسبية ما تركه علماء سابقون على اينشتاين. وها قد دخلنا الآن فى نظريات اللا حتمية، وتتعدد الاختلافات على كل المستويات بما لا يسمح للعقل العربى المعاصر بتقبل فكرة الإجماع بمعناها الأوَّلِى البسيط، خصوصًا ذلك المعنى الذى ربطها بالديكتاتوريات السياسية أو بأشكال التمييز الدينى أو السياسى أو الطبقي. وقد كان العرب القدماء كابن المعتز يرون أن علم الخاصة لا ينبغى أن يتدنى فيصبح متاحًا للعامة، وهو قول يوازى ما يقوله المتصوفة عن العلم المضنون به على غير أهله، وكل ذلك يتعارض مع ما يُتعارف عليه الآن من ديمقراطية التعليم التى تتيحه لكل من يرغب فى المعرفة بغض النظر عن دينه أو مكانته الاجتماعية.
ثالثًا: وأضيف إلى ذلك أن مبدأ الإجماع نفسه من حيث هو حضور معرفى مجرد، يتعارض مع بعض أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، فحث الرسول على الاجتهاد وتأكيده الإثابة على الخطأ - وهو أمر يعنى حق الخطأ فى الإسلام - إنما هو فى التحليل الأخير يلقى بظلال الشك على هذا الشيوع المتمسك بمبدأ الإجماع فى تأويلاته الإسلامية، خصوصًا فى دين يقر بحق الخطأ ويثيب المخطئ إذا أخطأ فى الاجتهاد، ويعتمد على النوايا الفردية بالدرجة الأولي، فنسمع لمالك قوله: «إذا ورد عليك قول من قائل، يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهًا، والإيمان من وجه واحد، حُمِلَ على الإيمان، ولا يحمل على الكفر». وهو القول الذى نقله الإمام محمد عبده، ولا يعنى ذلك إلا أن الاختلاف فى الأفهام أمر مقبول فى الإسلام، بل أمر حتمى فى الوقت نفسه، وهو ما يجعل القول بالإجماع أمرًا مستحيلًا عقلًا، خصوصًا إذا وضعنا فى اعتبارنا أن المسئولية الدينية هى مسئولية فردية فى آخر الأمر، بدليل الآية االكريمة التى تقول:« وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا» (سورة الإسراء- الآية13)، وقوله تعالي: «لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» ( سورة إبراهيم- الآية51). وهذا كله ما يعطى للمسلم الحق فى الخروج على الإجماع إذا هداه ضميره أو عقله إلى عدم اقتناعه بهذا الإجماع أيًّا كان هو، وأيًّا كان المجال الذى يحدث فيه.
وما أصدق نجيب محفوظ عندما وضع على لسان أحد أبطال الثلاثية (أحمد شوكت، حفيد السيد أحمد عبد الجواد) ما يلى من كلمات: «إنى أؤمن بالحياة والناس، وأرى نفسى مُلزَمًا باتباع مُثُلهم العليا ما دمتُ أعتقد أنها الحق؛ إذ النكوص عن ذلك جُبن وهروب، كما أرى نفسى مُلزمًا بالثورة على مُثُلهم ما اعتقدتْ أنها باطل؛ إذ النكوص عن ذلك خيانة» وهذا هو القول الفصل فى تقديري.
لمزيد من مقالات جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.