بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، نشأت عصبة الأمم عام 1919 كممثل للنظام والشرعية الدولية، بناء على فكرة بريطانية تبناها الرئيس الأمريكى فى ذلك الوقت وودرو ويلسون صاحب المبادئ الأربعة عشر الشهيرة للحزب الديمقراطي، لكن الكونجرس الأمريكى رفض التصديق على ميثاق العصبة أو الانضمام إليها بذريعة أنها محاولة من القوى الأوروبية الكبرى للاستئثار بغنائم الحرب، وعزز ذلك الموقف المتحفظ قيام الثورة البلشفية فى روسيا بنزع السرية عن اتفاق «سايكس بيكو» لعام 1916 الذى جسد فكرة «الغنيمة» بتوزيع ميراث الدولة العثمانية بين المنتصرين. إن غياب الولاياتالمتحدة عن العصبة وإيثارها ما عرف ب «سياسة العزلة» وعدم الانغماس عميقا فى القضايا الدولية كان سببا رئيسيا وراء إخفاق التجربة، وعجل بتفكك العصبة واستبدال الأممالمتحدة بها غداة الحرب العالمية الثانية، ومع انشغال الدول دائمة العضوية فى مجلس العصبة، وهى «بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان» بمصالحها الاستعمارية، وإهمالها مظالم معظم شعوب العالم، فإنها انهارت لأن محددات عملها والبيئة المحيطة بها لم تمكنها من إعمال مبادئ ويلسون، ولا أى مثل أخلاقية أو قواعد قانونية مشابهة، ولم تسمح لها بالضرب على أيدى الأقوياء المستعمرين، أو ردعهم بطول العالم وعرضه فى وجودها، ولجأت معظم الدول المشاركة فى قمة النظام الدولى إلى القوة المسلحة والتحالفات المصلحية على أسس أيديولوجية أو مادية بمعزل عن الضوابط الحقوقية، الأمر الذى أسفر عن اندلاع الحرب العالمية الثانية التى راح ضحيتها أكثر من 60 مليونا من سكان العالم. أما سياسات الرئيس الأمريكى الحالى دونالد ترامب وأنماط تعامله مع القضايا الدولية الساخنة، والقرارات المتصلة بها، ولاسيما الصادرة عن الأممالمتحدة، فإنها تغرى باستحضار تجربة قيام عصبة الأمم وأفولها، فإذا كانت واشنطن قد التزمت فيما بين الحربين العالميتين بالعزلة السلبية، ولم تكترث بالجدية اللازمة بما يدور بين الأوروبيين من منافسات وانفلاتات من قوانين العصبة وقيودها، فإنها توشك الآن على الأخذ بسياسة العزلة المدمرة إزاء الأممالمتحدة وفاعليتها التى تحاكى إلى حد كبير ما كان يفعله الأوروبيون فى زمن العصبة. ومن تجليات هذه المحاكاة ومبرراتها أن إدارة ترامب دأبت على إهمال القوانين والأعراف الدولية وقرارات المؤسسات الدولية الساهرة عليها بما فيها الأممالمتحدة، وراحت تستسهل الخروج على التعهدات والتعاقدات التى أبرمتها أو شاركت فيها، ومغادرة أو التهديد بمغادرة المنظمات التى لا تخضع لإملاءاتها، ونلمس هذا التوجه فى الانسحاب الأحادى الجانب من منظمة اليونسكو، والاتفاق النووى الإيرانى والوعود الخاصة باتخاذ خطوات مماثلة مع اتفاقية المناخ، وبعض اتفاقات التجارة العالمية، وتشجيع الميول الانعزالية لدى الداعين إلى تفكك الاتحاد الأوروبي، علاوة على تنكرها للوضع القانونى الدولى لمدينة القدس، وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة والاتفاقات العربية الإسرائيلية، والفلسطينية الإسرائيلية ذات الصلة، وأخيرا الانسحاب من المجلس العالمى لحقوق الإنسان! هذه التصرفات والسلوكيات والمنهج المنظم لها يفتح الباب أمام أى قوى إقليمية أو دولية تسعى للخروج والتحلل من أى التزامات حقوقية تراها مقيدة أو مجافية لأطماعها، ومن المعلوم أن إسرائيل تأتى فى طليعة هذه القوي، ولها فضل السبق بينها، فمنذ اليوم التالى لإعلان قيامها قبل 70 عاما لم تأبه للقوانين والقرارات الأممية التى لاتحظى برضائها حتى إنها لاتطبق حتى وقتنا هذا شروط قبولها كعضو فى الأممالمتحدة عام 1949. إن عبوس إدارة ترامب فى وجه القوانين والتقاليد والأطر المنظمة للعلاقات الدولية التى بذلت دول العالم وقتا وجهدا وتضحيات جساما إلى أن استقرت عليها، وانبعاث رائحة عقدة الرجل الأبيض ووصايته فى أجواء السياسة الأمريكية، والالتزام بعقلية الإملاءات والتخلى عن لياقة المخاطبة والحوار والتعامل مع الأصدقاء والخصوم على السواء بلغة مشحونة بالعنجهية والاستقواء والتبجح تمثلت فى مواقف كثيرة آخرها افتتاح السفارة الأمريكيةبالقدس فى ذكرى اغتصاب فلسطين،، هذه المشاهد وغيرها ربما يؤدى إلى كوارث فى الفضاءات الإقليمية والدولية، ولن تكون الفوضى المحيطة بالقضية الفلسطينية، وتفاقم الصراع على أى أرض فلسطين التاريخية سوى بعض منها. د. عماد إسماعيل