تحل فى هذا الشهر الذكرى المئوية الثانية لميلاد كارل ماركس. يحسد كثير من المفكرين كارل ماركس بسبب المكانة التى حققها فى تاريخ العالم الحديث، فما أروع أن يرى المثقف أفكاره وقد خرجت من الكتب، وتحولت إلى قوة تغير العالم. لم يؤثر مفكر واحد منفرد فى العالم قدر التأثير الذى أحدثه كارل ماركس. بالطبع هناك الأنبياء، لكن هؤلاء كانوا حملة رسالات سماوية مقدسة، ولم يكونوا مجرد بشر. لم تكن الماركسية لتتمتع بكل هذا التأثير لولا أن فيها من الأديان الكثير. النبوءة والرسالة والشمول هما أهم ما تشترك فيه الماركسية مع الأديان. تنبأت الماركسية بأن الشيوعية هى آخر مراحل التاريخ، بينما تنبأت الديانات الكبرى بما سيحدث بعد نهاية كل تاريخ. تنبأت الديانات بنهاية العالم كما نعرفه، عندما نقف جميعا بين يدى الله يحاسبنا على ما فعلناه فى الدنيا؛ بينما تنبأت الماركسية بالشكل الذى سوف تكون عليه كل المجتمعات قبل ذلك مباشرة. الديانات، فى رأى أنصارها الأكثر تشددا، هى أكثر بكثير من عقيدة يؤمن بها بعض الناس، فهى أيضا رسالة وأمانة عليهم تبليغها لعموم البشر. يجاهد المؤمن لتبليغ الرسالة للناس، ولفرضها عليهم بالقوة إذا سمحت الظروف؛ وهكذا هى الماركسية أيضا. كان كارل ماركس اقتصاديا وفيلسوفا، بقدر ما كان مناضلا يقود عمال العالم للوحدة والثورة، راسما لأتباعه الدرب الذى عليهم الالتزام به. الديانات الكبرى عقائد حركية وبرامج عمل؛ والماركسية، هى أيضا، أيديولوجيا حركية مناضلة، تثرى الفكر، وتثير الشغب. الديانات عقائد كلية شاملة، ترشد المؤمنين للسلوك القويم، فى كل مناحى الحياة، لا تمييز فيها بين ما هو عام وما هو خاص، ولا بين ما هو سياسى وما هو اجتماعى أو ثقافي. الديانات تشرح للمؤمنين قصة الكون منذ بدء الخليقة إلى يوم الدين، وهكذا هى الماركسية أيضا. الماركسية تزعم القدرة على تفسير التاريخ منذ عاش البشر فوق الأشجار، حتى مجتمع التقدم التكنولوجى الرأسمالى الراهن، والشيوعية التى زعمت الماركسية أنها ستخلفه. ومثلما أسس غلاة المؤمنين نظما شمولية، لم تترك صغيرة أو كبيرة فى حياة الفرد إلا وتدخلوا فيها، تأسست - استنادا للعقيدة الماركسية - نظم حكم شمولية، أهدرت أى معنى للفرد والخصوصية. تطمح المذاهب الشمولية لإعادة صياغة العالم وفقا لتعاليم العقيدة. اليقين المفرط المميز للعقيدة الشمولية لا يجعل أنصارها مستعدين للتوقف عن تكرار المحاولة، إلا عند وقوع الفشل الصريح الذى لا يحتمل لبسا، وعند الارتطام المدوى بتعقيدات واقع اجتماعى وثقافي، يرفض الانصياع للاختزال والتبسيط الشديد الذى تحاول الايديولوجية فرضه عليه. فى إخفاق الماركسية هزيمة لكل العقائد الشمولية التى حاولت فرض الهندسة الاجتماعية الخاصة بها على الواقع، وانتصار لكل عوامل التنوع والتعدد والثراء الكامنة فى كل المجتمعات، مهما بدت بسيطة وسهلة القياد. مشكلة ماركس هى أن التغييرات التى أحدثتها أفكاره فى العالم لم تكن دائما إيجابية، وأن محصلة ما يقرب من مائتى عام من الأفكار الماركسية هى فى أفضل التقديرات محصلة مختلطة، يتساوى فيها الجيد والرديء. لقد أنتجت الماركسية بعضا من أسوأ نظم الحكم التى عرفها التاريخ الحديث، وتسببت هذه النظم فى فظائع لم تكن لتحدث لولا أن التبريرات الماركسية أضفت شرعية وأخلاقية على هذه الفظائع باعتبارها الثمن الضرورى لتحقيق أهداف أسمى وأكثر نبلا. ربما كان من الممكن لبلاد مثل روسيا وبولندا والمجر وجمهورية التشيك أن تصبح أفضل حالا بكثير لو لم تكن قد أهدرت عقودا حكمتها فيها أوهام الايديولوجيا الماركسية. أما فى البلاد التى أسهمت نظم الحكم الماركسية فيها فى تحقيق إنجازات، فإن ما تأخذ به هذه البلاد من نظم للحكم والتنظيم الاقتصادى والاجتماعى يبدو بعيدا جدا عما دعا له وتنبأ به كارل ماركس، ولنا فى الصين نموذج. بكل ما فيها من أفكار عبقرية وضلالات، نجحت الماركسية فى إلهام ملايين البشر، وفى التحول إلى برنامج عمل التزمت به أحزاب وحكومات. ففى الزمن الذى عاشت فيه الصينوروسيا وبلاد كثيرة أخرى فى ظل حكومات ترفع رايات العقيدة الماركسية، فإن واحدا من كل أربعة من سكان كوكب الأرض فى هذه المرحلة عاش فى ظل حكومة ماركسية. وتثير هذه الحقيقة التساؤل عما إذا كان البشر فعلا كائنات رشيدة وعقلانية، بإمكانهم اتخاذ القرار الصائب والتقاط الاختيار السليم، خاصة عندما يأتى الأمر لقضايا الحكم ونظم إدارة الاقتصاد والمجتمع. لم يكن ماركس مخطئا عندما ركز على أهمية الاقتصاد وعملية إنتاج الثروة فى تطور المجتمعات؛ لكنه لم يكن صائبا عندما اختزل الإنسان والمجتمع البشرى المعقد فى هذا العامل وحده. لقد تصور ماركس «إنسانا اقتصاديا» تدفعه المصلحة الاقتصادية، وتتحدد أفكاره وقيمه وهويته الاجتماعية بناء على عضويته فى طبقة اقتصادية، ولا شيء أبعد من الحقيقة عن هذا التصور التبسيطي. الناس جميعا، إلا قليلا، يولون للمال قيمة كبيرة، وينفقون جل وقتهم فى السعى وراءه. لكن أغلب الناس لا يعتبرون أنفسهم أعضاء فى طبقة اجتماعية، ولا يشعرون بأى التزام تجاه آخرين يشاركونهم الوضعية الاقتصادية نفسها، ويحملون أفكارا دينية وقومية لا صلة لها بطبقتهم، أو أنهم لا يهتمون بالأفكار على الإطلاق. وبالنسبة لبعض الناس، بما فى ذلك الزعماء الكبار للأحزاب الماركسية، من أمثال ستالين وأنور خوجة وماو وكاسترو، فإن الفوز بالمجد والنفوذ والشهرة والسلطة كان أهم بكثير من الطبقة والمال، وهذه هى الطبيعة البشرية المعقدة التى أهملها كارل ماركس. لمزيد من مقالات ◀ د. جمال عبدالجواد