قبل أن تقرأ، أرجوك اهدأ، فأنا لا أطالبك بشيء، لكننى فقط جئتك من «التاريخ» بشيء، على سبيل المعرفة وحسب، وما جئتُ به يعرفه كثيرون، لكن كثيرين آخرين يصرون على أن يقفوا للمعرفة بالمرصاد، مكتفين بالنظر إلى مواضع أقدامهم، فخورين بنضال السباب لغيرهم، والحق أننا لا نأسَى أبدا لسبابهم، لكننا فقط - إن رأيناهم- ندعو بالهداية لهم. كثيرا ما يُطلق الناس التساؤلات، من أعماق قيعان بحور يأسهم: لماذا لا تصبح مجتمعاتنا أبدا مثل مجتمعات الغرب؛ بما ينظمها من أطُر مُحكمة، وقواعد واضحة، وديمقراطية راسخة؟!. لماذا هم أفضل منا؟!. الإجابة يمكن أن نقرأ ملامحها فى كتاب صدر حديثا عن الهيئة العامة للكتاب، للزميلة إيمان العوضى الصحفية والباحثة فى «الأهرام»، كان أطروحتها لنيل درجة الماجستير، وجاء بعنوان «الفكر الليبرالى فى مصر 1919- 1961»، وكتب مقدمة الكتاب الأستاذ الدكتور عاصم الدسوقي، المفكر الكبير وعالم التاريخ الجليل. ما يعنينا هنا هو ما تطرقت إليه الكاتبة حول نشأة «الليبرالية» ومسار تطورها فى أوروبا عبر التاريخ، فتوضح لك أولا أن «الليبرالية» هى اصطلاح اقتصادى وسياسى برز فى أوروبا فى القرن الثامن عشر ويقصد بها «التحرر» أو «التحرير»، وكانت تهدف إلى إقامة حكومة برلمانية، وإلغاء الامتيازات الطبقية، وتأكيد حرية التعبير والعبادة، وحرية التجارة الخارجية. والأهم هنا هو أن الليبرالية - أو التحرر- كانت تعكس صراع الطبقة الصناعية التجارية الجديدة التى برزت فى المجتمع الأوروبي، وسُميت «البرجوازية»، مع القوى التقليدية الثلاث المسيطرة، وهي: الملوك المستبدون، والكنيسة، والإقطاعيون ملاك الأراضي. وتعرض الكاتبة تفاصيل نشأة تلك الطبقة الجديدة، وصراعاتها، وأفكار الفلاسفة الداعمين لحقوقها، وجهود الإصلاح الديني، لكننى أنقل هنا عن الكتاب بإيجاز شديد، وأطلب منك فقط ملاحظة التواريخ جيدا. بعد تفكك الإمبراطورية الرومانية الغربية (فى القرن الخامس الميلادي) ساد النظام الإقطاعي، الذى تعاقبت فى ظله (قرون) من الفوضى والظلم لصغار المزارعين، حتى ظهرت جماعات من المغامرين من طبقة النبلاء، قاموا بغارات قرصنة على الموانئ والسفن العربية، فحصلوا على غنائم، كونوا من خلال بيعها تجارة، تزايدت بالتدريج، فتزايد نفوذهم لينافس نفوذ الإقطاعيين ملاك الأراضي، وتشكلت من هؤلاء التجار شيئا فشيئا طبقة اجتماعية جديدة هى «البرجوازية»، ففرض الإقطاعيون ضرائب باهظة على تلك التجارة. بدأ الصراع بين الجانبين، واستمر دون نتائج حاسمة (عدة قرون)، حتى تلاقت رغبة الملوك مع مصالح الطبقة الجديدة فى القضاء على الإقطاعيين (بدايات القرن الخامس عشر) فوجهوا لهم ضربات قاصمة، لتكون أوروبا بعدها على موعد مع ولادة النظام السياسى الليبرالى الجديد، لكن عملية كتابة «شهادة ميلاد» هذا النظام استغرقت - كمرحلة أخيرة فقط بخلاف المراحل السابقة من الحمل والمخاض وآلام الولادة- ثلاثة قرون كاملة، (بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر)، أى 300 سنة!. بالعودة الآن إلى السؤال فى أول المقال؛ «لماذا هم أفضل منا؟!»، لعل الإجابة تكون: «إنها حركة التاريخ؛ تلك الحركة الدائبة الممتدة، والفعل المتراكم عبر القرون»، لكن السؤال أيضا: «هل هم المثال النقى للحرية حقا؟». فى ندوة مناقشة كتاب إيمان العوضي، التى أدارها الكاتب الصحفى شريف عارف الأسبوع الماضي، قال العالم الدكتور عاصم الدسوقي: «لا حريات مطلقة فى أى مكان على الأرض، ولكن هناك أنظمة للحكم تكون إيجابياتها أكثر نسبيا من سلبياتها». كيف؟!. أجاب بمثال قائلا: «عملتُ فى أمريكا قلعة الرأسمالية أواخر السبعينيات، وفوجئت بوجود حزب اشتراكى هناك، تلقيت دعوة خاصة لحضور أحد مؤتمراته، وفى المؤتمر سمعت أفكارا وخطبا يسارية ساخنة، فوجئت أيضا بها، لكننى بعدها عرفت أن المؤتمر ليس مفتوحا لحضور المواطنين، وفى اليوم التالى لم أقرأ كلمة عنه فى صحيفة»!. قلتُ لأستاذنا الكبير: «عندى سؤالٌ حالمٌ لكن لا بأس؛ حتى تكون الإيجابيات فى مجتمعاتنا أكثر من السلبيات؛ كيف نبدأ؟!». قال: «فلتستمر جماعات رأس المال فى دفاعها عن مصالحها وسلطتها كما تريد، لكن فلنبدأ على الأقل بالنقابات، عبر تقويتها لتدافع عن مصالح الناس بحق، لا إضعافها، ليتنا ندعم النقابات وحسب». أخيرا.. ها أنت قرأت، ولا أطالبك بشيء، إلا بأمر وحيد؛ بأن تعرف قبل أن تتكلم، بالمعلومة قبل الرأي، بالمعرفة قبل الرؤية، بأن تفهم أن حركة التاريخ وأعمار الأوطان لا ترتبطان بعمرك القصير؛ فإن لم تُدرك خلاله الأحلام رحت تلعن الظلام، مع أن نهاية العالم ليست غدا، والحلم لا يغدو حقيقة إلا إذا اختمر. على أى حال، إن لم يعجبك الكلام إياك أن تفكر، ابدأ فورا سبابك، واتهامك، هيا واصل نضالك!. [email protected] لمزيد من مقالات ◀ محمد شعير