صحيح أن الاختلافات التى تحكم الكائنات الحية من حيث البنية، والوظيفة، والنمو، والتطور تعد من دوائر عالم الوجود، وهى دوائر ليست عبثية، وصحيح أيضًا أن التنوير يتعقب المخفي، وأن العلم يبحث عن المجهول؛ لذا فإن الطبيب البروفيسور «بريوبراجنسكي» يحاول اكتشاف آلية لتخطى معابر الشيخوخة، وعندما أنهى مساعده الطبيب «بورمنتال» تخدير الكلب، فتبدى مستلقيًا على منضدة العمليات الجراحية، استمر الطبيب المساعد فى استكمال مهمته بأن يحلق شعر الكلب، ابتداءً من الجمجمة التى أصبحت صلعاء، مارًا بالجسد كله، عندئذ تحرك البروفيسور لبدء الجراحة الرائدة لكلب المختبر، التى انتهت باستئصال الغدة التناسلية من الكلب، وزرع بدلاً منها غددًا تناسلية لرجل عمره ثمانية وعشرون عامًا، توفى قبل أربع ساعات، وعقب ذلك استأصل الغدد النخامية من جمجمة الكلب، واستبدل بها أخرى بشرية للرجل ذاته. وتستهدف هذه العملية الجراحية استجلاء مدى تأثيرها فيما بعد فى إعادة الشباب لجسم الإنسان، صحيح أن كل طارئ وارد، لكن فقدان الكلب شروط النوعية والخصوصية، واكتسابه صفات نوعية أخرى تغاير نوعيته كحيوان، يكشف جديدًا من المجهول غير المتوقع، حيث اعترف البروفيسور أن الجراحة لم تؤد إلى إعادة الشباب؛ بل أدت إلى أنسنة كاملة، إذ بدأ الكلب ينطق كلمات، ويقف على ساقيه، وسقط ذيله، وتؤكد أعضاؤه التناسلية أنه رجل فى طور التكوين؛ لذا أحضروا له ثيابًا داخلية وخارجية، فسمح الكلب أن يلبسوه القميص الداخلى راضيًا، رافضًا السروال الداخلى محتجًا بصرخات من الشتائم، وعندما ارتدى السروال الخارجي، نطق يقول: «هات سيجارة، سروالك به خطوط» وحين أمره البروفيسور بعدم إلقاء بقايا الطعام على الأرض، أجابه «اسكت يا بيضة القملة». صحيح أن الشيخوخة تعنى فى الإدراك الاجتماعى اختزال المسن فى جسده، حيث يذهب عنه تاريخه، ويبقى جسده المهزوم يواصل صمت الخلايا، لكن الوظيفة الغامضة للغدة النخامية التى تم العثور عليها، أثبتت أنها أداة التحكم والسيطرة على المظهر البشري، إذ فسر البروفيسور نتيجة التجربة، بأن الغدة النخامية الإنسانية بعد أن تساكنت فى دماغ الكلب، قد فتحت مركز الكلام فانصبت الكلمات كالسيل؛ إذ اختزن مخ الكلب من حياته قبل الجراحة، كمية ضخمة من كلمات الشوارع التى كان يسمعها ويختزنها فى دماغه، وثمة تحليل مخالف يؤكد أن الحيوانات لا تتكلم لغياب التفكير لديها، وذلك لنقص التصورات والتخيل، الذى ينجم عن طبيعة تنظيم أعضائها، لكن نتائج التجربة المدهشة أفرزت مخلوقًا تحرر من بنيته بقطيعة حاسمة مع ميراثه الكامل، وأنتجت مخلوقًا طارئًا محولاً، قبيح المنظر، اكتسب القدرة على الكلام، ويعيش مع البروفيسور فى منزله، يقفز كبدائي، يدخن ويسقط الرماد على صدره، ويرمى الأعقاب، ويبصق فى أى مكان، ولا يعرف النظافة، ويترصد مديرة المنزل فى الظلام، ويعانق خادمة الجيران، ويقرص سيدة فى صدرها، ويعضها وهى تصعد السلم، يشرب الخمر حتى الثمالة، يصاحب المتشردين، ويسرق النقود وغيرها، ويطارد القطط فى كل مكان، ويقيم لها المجازر، مهما تكن حسابات الخسائر، وكأنه مدفوع بشحنة غريزية يتجاوز عنفها الواقع الجديد الذى يعيش فيه، وهو ما يعنى غياب إدراكه لهذا الواقع والوعى به، بوصفه أسير وضعه ونوعه الذى يطوقه، عانى الجميع قاموسه وأسلوبه المنعكسين فى سلوكه المتبجح والهمجي، إنه لا يمتلك إمكانية التخيل والتصور، تلك القدرة الكبيرة على تحسين العالم، حيث هى فى عمقها وظيفة أمل؛ لأنها تتخطى اللحظة وتسعى وتنشد عالمًا أفضل وأجمل وأصلح بخلق التوازن النفسى والاجتماعي، ولأنه يفتقد تلك الملكة الإنسانية، فإن ما يحكم سلوكه بشكل أحادى هو غرائزه، وتوتره الداخلى مع العالم الإنسانى الجديد الذى لا يدركه، فظل هذا التعارض قائمًا فى علاقاته بوصفه كلبًا ناطقًا بالواقع الإنساني، إذ ما زال مستمرًا فى عض البشر، وأيضًا ما زال مدمنًا ممارسة خصومته الموروثة للقطط، بوصفها العلامة الفارقة التى تنسبه إلى شرطه النوعي. ولأن المستحيل يغدو ممكنًا بقدر ما يغدو الممكن مستحيلاً، لذا راح يستغل راهنه بمظهره الإنساني، حيث التحق بعمل مديرًا لقسم تطهير المدينة من حيوانات القطط وغيرها، وهكذا أصبح عمله الأساسى فى الحياة بمظهره الإنسانى هو خنق القطط؛ لذا فإن سياق علاقاته فى واقعه مضطرب، سواء مع الأشياء أو مع البشر، برغم اكتسابه قدرة الكلام، لأن حضور الكلام لديه محض حضور وافد عليه وغير مستقر، حضور مركب ملصق، حضور شاحب غير مضيء، فهناك ثمة عوائق شتى لا تحقق له الشرط الإنساني، والكلام ليس هو الشرط الإنسانى الوحيد؛ بل لا يشكل أيضًا البرء من الحيوانية. وفى مواجهة عدم القدرة على استصلاح هذا المخلوق الطارئ، وتعدد أفعاله المذمومة، واتساع الفجوة والتفاوتات بين مظهره الإنسانى وسلوكه، كان لا بد من إزاحة الحالة الإنسانية الموهومة، التى تتغلب عليها امتدادات لأصل حيواني، لم تفلح فى إضاءة أعماقه جراحة أو تدريب أو محاكاة من الظاهر، وقد أصبح مفهوم الرجوع إلى الأصل يعنى انتشال الكلب من حالة انتكاسه، وإعادته إلى مظهره المتجانس مع داخله، وردم هوة التفاوت السحيقة، وبالفعل أجرى البروفيسور فى النهاية الجراحة التى أعادت المخلوق الطارئ إلى نوعه الحقيقى مظهرًا يتجانس مع داخله، فصار كلبًا عاديًا متكئًا إلى سجادة بالقرب من الأريكة التى يجلس عليها البروفيسور، الذى أثبت بتجربته أن العلم لا يعرف طريقه إلى تحويل الوحوش إلى بشر معنى وقيمة. إن المخلوق الطارئ المحول المكتسب لقدرة الكلام، هو إحدى الشخصيات الرئيسية فى رائعة الروائى والمسرحى الروسى (ميخائيل بولجاكف 1891 - 1940)، التى كتبها عام 1925 بعنوان زقلب كلبس وظلت أكثر من ستين عامًا لا يعرف عنها قراء اللغة الروسية شيئًا حتى نشرت عام 1987، وكان السبب فى ذلك تحذيرات من أصدقائه بعدم نشرها، خوفًا من تفسيرات خصومه لها أمام السلطة؛ وذلك لأنهم اعتبروها نوعًا من الثورة أو التمرد، فى حين أنها رواية تنويرية تبلور وعيًا للذات المقطوعة عن ذاتها، نتيجة انفصال العلم عن المعرفة بمعناها الأخلاقى والإنساني، بوصفهما يشكلان فى الذات الاجتماعية العقل الفاعل لجوهر حضارة التنوير، التى تعنى الوعى المتجدد الحضور والفاعلية. لمزيد من مقالات ◀ د. فوزى فهمى