كان التدريس في الجامعة يقتضي أن يحاضر الدكتور طه حسين في جانب من جوانب الأدب وهو الشعر الجاهلي, وأن يستخدم في ذلك الأسلوب العلمي الذي تعلمه في أوروبا ومقتضاه أن يشك في كل شيء حتي يصل إلي حالة من اليقين لا يكون بعدها أي شك, وتعلم أيضا أن للجامعات تقاليد, منها أن تأخذ الأبحاث الأدبية طابع الحرية في التفكير, وعلي هذا الأساس درس النصوص الأدبية القديمة دراسة ناقد بصير, حتي وصل إلي نتائج يقرها العقل, وتنتهي دراساته وأبحاثه إلي كتاب هو في الشعر الجاهلي صدره بهذه العبارة: أريد ألا نقبل شيئا مما قاله القدماء في الأدب وتاريخه إلا بعد بحث وتثبت إن لم ينتهيا إلي اليقين فقد ينتهيا إلي الرجمان. وعلي هذا فإنه حين درس الشعر الجاهلي شك في بعضه وليس كله, فالكثير مما نسميه شعرا جاهليا ليس من الجاهلية في شيء وإنما هو منتحل, أي إسلامي يمثل حياة المسلمين أكثر مما يمثل حياة الجاهليين, إلي جانب أن هناك بعضا من الشعر الجاهلي الصحيح, أي أنه بذلك شك في بعض الشعر الجاهلي وليس كله. هكذا عرض الدكتور طه حسين نظريته, وما كان كتابه يثير هذه الضجة التي حدثت لو لم تفلت منه بعض الجمل التي جاءت استطرادا في صلب البحث أثارت عليه البعض لدواع سياسية وأخري علمية تتصل بموقفه من الأزهر الشريف. وقد تركز هجوم هذا البعض حول هذه الجمل التي جاءت استطرادا, وكان في مقدمة هؤلاء مصطفي صادق الرافعي وبعض الكتاب الذين ينتسبون إلي الأزهر, وكان علي مجلة السياسة لسان حال حزب الأحرار الدستوريين التي كان يكتب فيها, أن تصمت بعض الوقت ولكنها لم تلتزم ذلك طويلا إذ خرجت بمقال عنوانه رجال الدين وحركاتهم السياسية ردا علي الهجوم العنيف الذي نال الدكتور طه حسين, ومقال آخر بعنوان خطران لطه حسين نفسه فيه اقترح مشروعا لإصلاح الأزهر ويتضمن في الوقت نفسه الدفاع عن نفسه, لكن حملة الهجوم علي طه حسين تشتد وتصل إلي ذروتها في مظاهرات تتوجه للبرلمان لمقابلة رئيسه الزعيم سعد زغلول الذي يخرج عليهم ويقول: إن هذا الدين متين, وليس الذي شك فيه زعيما أو إماما حتي نخشي من شكه علي عامة الناس, ولم تقف المعركة عند حدود الكتابات الصحفية أو المظاهرات ضد مؤلف هذا الكتاب, وإنما دخلتها الأحزاب بين مؤيدين ومهاجمين, وكانت المطالبة بتقديم طه حسين للنيابة, وبالفعل قدم طه حسين للنيابة التي رأي رئيسها محمد نور بك أن العقاب علي الخطأ في الرأي مكروه, ومن ثم حفظت القضية. وتهدأ المعركة سنوات قليلة وتجدد عام1932 لأسباب سياسية وليست علمية تكون نتيجتها فصل طه حسين من الجامنعة بعد سيل آخر من الهجوم الذي وجهه رئيس الوزارة صدقي باشا, إلا أنه بعد هذا الفصل من الخدمة انقلبت الأمور لمصلحة طه حسين, حيث تقوم مظاهرات مطالبة بعودته إلي عمله في الجامعة, ويبقي كتاب في الشعر الجاهلي بعد أن حذف منه فصل وأضيف إليه آخر. المزيد من أعمدة سامح كريم