أصعب شىء أن يحدّق فيك حشد من الناس بكل حواسه. أصعب من الموت نفسه. وماذا يكون الموت أكثر من قلب خائف، ومفاصل ترتجف وشفاه لا يبلغها الكلام ؟ كأنك تهوى فى بئر بلا قاع. غير أننى مدين لهذا الخوف، لأنى، فى كل مرة واجهت فيها الجمهور، كنت أظن أننى لن أعود سالماً. وبعد التجربة، كنت أثمّن حظى السعيد. من تحية العلم وما كنت ألقيه أمام زملائى من خُطب، أدرك الآن أن الكلمات تربّينا مثلما تفعل كل أم . تولد الكلمات منا، وحين نقولها نولد نحن منها، لأنه ما من موقف تتكلم فيه إلا أعقب لك شيئاً. كل متكلم هو جملة محصورة بين قوسين.. الرضا والندم. غير أن الخطابة اختفت للأسف. حلت البذاءة محل البلاغة. ما يعنى أننا فى خطر، لأن «الخطابة»، بعفويتها وارتجالها، «بث مباشر»، ولن يبطلها شىء، حتى بعد أن ساد اعتقاد بأنها فولكلور. مع أنها أقوى وسيلة إعلام نصدر بها دواخلنا. هى من «كمالات النفس» نحتاجها لتقرير «الأخلاق وغرس أصولها فى النفوس». (1) الخطابة تريد من كل منا أن ينشر الغنى البشرى والقدرة على الإبداع التى يحملها فى نفسه.(2) هى ضرورة قصوى منذ أن تعارضت آراء الناس ومصالحهم، ومن ثم لم يكن بدّ من أن ينتصر الفريق الذى يستطيع أن يعزز آراءه بالحجج الدامغة ويعرضها بطريقة أكثر إقناعاً (3). لكن الخطابة ليست إقناعاً فحسب، بل استمالة أيضاً، لأن الذى يكتفى بالإقناع، دون التحميس، متكلم لا بليغ. (4) وإن لم أقصد هنا إلى الخطابة كإجراءات بلاغية فقدت فاعليتها، بقدر ما أريد أن أعرف، من خلالها، كيف تصرّف كل عصر فى حصته من الكلمات، لأن الكلمات هى القوة القادرة على أن ترسل الملايين إلى حتفها مأخوذة بسحر البيان. كلمات الخطيب هى نَفْسُه فى نسختها الشفاهية، «عقله يعرضه على الناس»، هى كله، على بعضه، بحيث تسمعه «فتشعر أنه يعمل عملاً.. هذا العمل هو «الاتصال» بإرادة الجماهير..والاتصال بإرادة الجماهير هو علم الإعلام»(5). والتأثير فيها هو علم النفس، فضلاً عن كون الخطابة فناً من فنون الأدب. لذلك أتعقب خط سير الكلمات. أتعقب الخطابة كحاضنة للبلاغة والبلاغة كطريقة عملية تتجمع بها روح إنسان فى فمه ثم تخرج منه على هيئة كلمات!. سمع الحسن البصرى خطيباً لكنه لم يشعر به، فقال له :«يا هذا إن بقلبك لشراً أو بقلبى». لم يتكلم هذا الخطيب من قلبه فلم يجد قلباً يسمعه. وراء الكلمات ثمة عواطف هى التى تخطب. ( 6) الجماهير تفكر بقلوبها. عبدالناصر، مثلاً، وضع انكساره ومرارته وضعفه كله فى صوته وفى عينيه وأطلّ بهم على الشاشة وهو يلقى خطاب التنحى عقب نكسة 1967، فعاملته الجماهير كقائد منتصر!. ميرابو قال ثمانى عشرة كلمة فقط واعتبرها النقاد أعظم خطبه. قال، بصوت حزين: «أيها السادة : انظروا إلى قسمات وجهى ففيها كل ما فى قلبى وما فى قلوبكم من حزن ومن إصرار»(7) السّرُّ كله فى العاطفة، لأنها سِلك عريان. وقد رميت أذنى ل «للصحراء» قبل الإسلام وبعده، ول «القاهرة» الآن، حيث تبحث الكلمات عن هوية. وإن كنت على يقين من أن الكلمات، برغم الركاكة، قادرة على أن تجمعك على بعضك أو على الآخر..الضفة المقابلة لك. فقط علينا أن نعرف كيف نستعمل الكلمات، لأن استعمالها هو الذى يحدد المعنى. ( 8) وقتها سندرك مدى قدرة الكلمات على أن تختصر المسافات الطويلة المجهولة بيننا. الكلمات هى الطريقة التى يتحدث بها كل عصر عن نفسه، ونحن بحاجة لأن نسمع الماضى يتحدث إلينا . التربة المثالية لغرس الوتد لم يضع العربى ثقته إلا فى الكلمات، العربى شغلته ملكة اللغة، وشغله الصراع مع اللغة أو الصراع مع المجتمع فى شكل اللغة، بتعبير مصطفى ناصف، ولهذا كان التدرب على الكلمات طقساً جماعياً، وعلى الأخص «فى شكل خطابة. والكلمة فى جانبها الاشتقاقى توحى بما يشعر به العربى من خطب مهم فى مجال العلاقات الاجتماعية... وكان الكلام بوصفه خطباً أو خطابة حظاً من الحظوظ التى يتفاضل بها الناس». (9) وحين ننظر إلى الفضاءات التى مشّطتْها الخطابة ندرك كيف غطت كل شىء. كأنها ديوان آخر للعرب، بل كثيراً ما فضلوا الخطباء على الشعراء حين بدأوا يتكسبون بقصائدهم. وقد توسع الإنسان البدوى فى اشتقاق الكلمات، ليعبر عن أغراضه التى لم تكن سوى التمكين للقبيلة فى هذا العراء المطبق، وصون أوتادها من أن تقتلعها رياح المغيرين أو بلاغتهم. لطالما امتلكت الكلمات من المضاء ما لايملكه السيف. «فصاحة اللسان هبة لا تقل عن الشجاعة فى القتال» ( 10). العبارة البليغة تقعد البدوى أو تقيمه بما تثيره فيه من النخوة. (11) هو ينتمى إلى البلاغة أولاً، هى إقليمه. وكان الخصام والجدل والنزاع يشبع فيه هذا الانتماء، وما هى إلا أن يقوم داع من دواعى الخطابة فيلبوه (12). البلاغة قَدَرُ «العربى»، وهو يدين ببلاغته إلى فطرته وإلى كون لغته بليغة.( 13) وإذا كانت البلاغة هى التعبير الفائق، وإذا كان القرآن قد نزل بلسان عربى فمن الإنصاف أن نسلٍّم لهذه اللغة بما هو أكثر من البلاغة، لأن معجزة التعبير القرآنى تبدأ بعد آخر درجة ينتهى إليها الكمال. وقد استجابت «العربية» لإعجاز القرآن بما لها من خصائص تنفرد بها من بين ثلاثة آلاف لغة يتكلمها إنسان اليوم. والخطابة مثّلت هذه الخصاص.. شاعرية واستبصاراً وقدرة على التصوير والتأثير. يقول العربى وهو يلقى نظرات الوداع على جسد الإسكندر «الإسكندر كان أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس» (14) ويقول آخر مخاطباً ربه «أشهد أن السماوات والأرض آيات دالات وشواهد قائمات، كل يؤدى عنك الحجة ويشهد لك بالربوبية... فهى على اعترافها لك، وافتقارها إليك، شاهدة بأنك لا تحيط بك الصفات، وأن حظ الفكر فيك الاعتراف لك». (15) السؤال: فى أى مكان، غير مكة، وفى أى زمان سوى الجاهلية، وقد تكاثرت الأوثان آلهة، وبأية لغة غير العربية، وعلى أى رجل غير النبى محمد عليه الصلاة والسلام كان حرياً بالقرآن أن ينزل؟ ولم؟ أم أنهم يجحدون القرآن أصلاً ومن أنزله، معتقدين أن الإلحاد يجعلهم فى جانب الأذكياء، مع أن التجربة تؤكد أن «الأخذ بنصيب بسيط من الفلسفة والعلم يسوق إلى الإلحاد، ولكن التعمق فيهما يوضد دعائم الإيمان». إن نزول الوحى على هذه الرقعة، فى ذلك الزمان، بهذه اللغة، على هذا الرجل هو تعبير التعدد عن نفسه. ردُّ التعدد إلى وحدة واحدة هى شخصية الرسول الذى التقت فيه سعة السماء بسعة الصحراء بسعة الرسالة، بسعة القرآن، بسعة اللغة التى نزل بها. وهو، صلى الله عليه وسلم، التقاء كذلك لدعوة أبيه إبراهيم وبشارة أخيه عيسى. ولهذا كان أنسب وصف للبيئة الجاهلية أنها «تربة مثالية» استوفت حظها من الخصوبة ( البلاغة )، ولم يبق سوى أن تُنقّى هذه البلاغة من «الشر المنبعث عن فتنة الكلمة»، ( 16) وهذه البيئة من الشرك، ليخرج منها رسول التوحيد زرعاً أخرج شطأه. السماء تكلم الأرض : كانت الأرض، على حياة الرسول، صلى الله عليه وسلم موصولة بالسماء عن طريق الوحى. وهو، بدوره، يقود الأرض إلى ربه بالكلمات. ينزل القرآن فيتحول إلى منهج عمل وعيش. ولما مات الرسول صلى الله عليه وسلم كان الدين قد اكتمل والنعمة قد تمت. وبقى القرآن حبل الله المتين الذى يربط العالمين.. الأرض بالسماء.. الملك بالملكوت. انتقل القرآن بالكلمة العربية، والثقافة كلها، من طور الشفاهة إلى طور الكتابة. من حياة الاتصال اللفظى إلى حياة صارت فيها الكتابة «الشكل الأساسى للغة «. (17) فى البيان الشفاهى ملامح الشخصية العربية.. «الحاسة اللغوية المضطرمة وحاسة الجنس الفتيّ، وحاسة القتال». (18) ولهذا كان البيان العربى «يدافع باستمرار عن الشفاهة ضد النزعة الكتابية التى تقوم على الاعتراف بالمسافة بين المتكلم والمخاطب، وملاحظة الموضوع أكثر من ملاحظة التأثير، أو ملاحظة الوفاق أكثر من ملاحظة التنازع والمماراة». (19) الشفاهية تغذى فى العربى النزوع إلى الهجاء ، والإعجاب بالذات، والتباهى بمجد الكلمات. بينما الإسلام يريد أن يحول بينه وبين رذائله القديمة وأهمها الافتتان بما يقول أو يسمع. وقد فهم أبو بكر الصديق مراد السماء من الكلمات فتحاشى فتنتها وأقامها فى نفسه قبل أن يطبقها على غيره، فجاءت صدى لما يتردد فى جوفه. كلماته أصلحت الدنيا والدين، لأنه عاش عيشة أدنى فرد فى الرعية. قال فى أول خطبة بعد بيعته «أيها الناس إنى وُليتُ عليكم ولستُ بخيركم ، فإن رأيتمونى على حق فأعينونى، وإن رأيتمونى على باطل فسددونى، أطيعونى ما أطعتُ الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لى عليكم». (20) لطالما تمنى أنه لو كان شجرة تعضد، أو عصفوراً، أو لم يخلق أصلاً، كى يتفادى الحساب. فى كل خطبة كان يدعو «اللهم اجعل خير زمانى آخره، وخير عملى خواتمه، وخير أيامى يوم ألقاك». الخاتمة تعنى وصول الكلمات (الأعمال) إلى غايتها، تعنى الجزاء. والصدّيق، بعد كل ما فعل، لا يريد أكثر من أن يلقى ربه لا له ولا عليه. كان قدوة وكانت كلماته مواقف. عمر، أيضاً، أخذته الكلمات إلى ربه بلا هوادة، لقد حمّل نفسه، وحمّل العصر، فوق طاقته، لأنه أدرك تبعة الكلمات. يقول: «يأيها الناس إنى داع فأمّنوا، اللهم إنى غليظ القلب فليٍّنٍّى لأهل طاعتك بموافقة الحق، ابتغاء وجهك والدار الآخرة...اللهم إنى كثير الغفلة والنسيان، فألهمنى ذكرك على كل حال، وذكر الموت فى كل حين» (21). عمر كان دائم اليقظة، وثمرة اليقظة أنها تحيل القول إلى عمل ليس له من شاهد إلا الله. أما عثمان بن عفان، الحييّ، فاحتبس لسانه فى أول خطبة له، وعلل هو ذلك بأن أول كل مركب صعب. غير أنه حين أصبحت الدنيا قبيحة من حوله وأنكر عليه الناس ما أنكروا، أسعفته فصاحته قال... «أما والله يا معشر المهاجرين والأنصار، لقد عبتم عليّ أشياء ونقمتم أموراً قد أقررتم لابن الخطاب مثلها...ولم يجتريء أحد يملأ بصره منه ولا يشير بطرفه إليه، أما والله لأنا أكثر من بن الخطاب عدداً، وأقرب ناصراً» (22). لقد ذهب عثمان ضحية لأطماع غيره فى السلطة والحكم. وحين ولى الإمام عليً أمر المسلمين كانت الدنيا من حوله قد امتلات خلافاً معه واختلافاً عليه. فجاءت كلماته صورة لموقفه.. حرارة إيمان بعدالة قضيته وثقة بربه ويقيناً من أنه على الحق، غير أن الكلمات ليست دائماً فى خدمة الحقيقة. يقول لأتباعه فى تقريع مرير «... أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، ما عزّتْ دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم... المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب... أما إنكم ستلقون بعدى ذلاً شاملاً. وسيفاً قاتلاً. وأثرة يتخذها الظالمون بعدى عليكم سنة. تفرق جماعتكم. وتبكى عيونكم. وتدخل الفقر بيوتكم... وستعرفون ما أقول لكم عما قليل» (23). هكذا اعتمدت خطابة الخلفاء على «صفو الحق أو صفو الكلمات»، بتعبير الجاحظ. «هيبة الكلمة» هى قوام المأثور أو الثقافة فى عصرهم (24). وهدف العصر واحد هو إقامة الدنيا على الصراط المستقيم. كانت «الخلافة فى موضوعها شغلهم الشاغل وكانت الرسالة فى بعثها وتجديدها فى النفوس يانعة نضرة هى همهم المقيم المقعد». (25) كأن «الخلافة» عهدة شخصية تركها الرسول فى ذمتهم. ولإدراكهم أن الإنسان يحاسَب على حصاد لسانه كما يحاسب على عمله، وضع الخلفاء قلوبهم فى أقوالهم فصارت لكلماتهم، رغم البعد، هذه القدرة على أن تومض وتهدى. البلاغة تقطف الرءوس كانت الأرض إذن تصغى فى كل أمرها للسماء، وحين استتب الأمر لمعاوية سنة 40 هجرية، صارت تصغى لنفسها. من وقتها وذهبُ معاوية، أو سيفه، يدير الصراع. وأمير المؤمنين هو من يحدد خصومه. وقد اتخذ من عليِّ ونسله عدواً ورّثه لأبنائه. هكذا كان على أحفاد النبى محمد عليه الصلاة والسلام أن يموتوا ويتشردوا باسم التعاليم التى نادى بها جدهم، بتعبير عبدالرحمن الشرقاوى. كانت فلسفة معاوية أن قصعة الدنيا تتسع لمن يريد أن يشاركهم الأكل لا أن ينازعهم الحكم. قال « والله ما وُليتُها بمحبة علمتُها منكم، ولا مسرَة بولايتى، ولكنى جالدتكم بسيفى هذا مجالدة». (26) معاوية يختار كلماته بدقة، لا يخضع للمؤثرات الانفعالية، يوزع هداياه على فقرات خطبته التى تتحرك على مستويين.. مستوى ظاهر يمتص الغضب ويزجى الوعود، ومستوى آخر باطنى يضمر عكس ما يظهر. حينما بايع لابنه يزيد بولاية العهد وكتب ببيعته إلى الآفاق، أبى عامله على المدينة مروان بن الحكم الإقرار بالبيعة ودخل على معاوية غاضباً يهدد ويتوعد، فما كان منه إلا أن قال له «...أنت نظير أمير المؤمنين، وعدته...، والثانى بعد ولى عهده! فقد وليتك قومك، وأعظمت فى الخراج سهمك! وأنا مجيز وفدك... وعلى أمير المؤمنين غناك، والنزول عند رضاك». (27) هذا ذهب معاوية، أما سيفه فللأفواه الثائرة التى لا سبيل لإسكاتها إلا بضرب العنق. والسيف جاهز. يزيد بن المقفع خطب فى الناس قال: «أمير المؤمنين هذا ( وأشار إلى معاوية)، فإن هلك فهذا (وأشار إلى يزيد)، فمن أبى فهذا ( يعنى السيف)».(28) والحجاج بن يوسف الثقفى كان سيفه ولسانه فى غمد واحد، وشعاره: «إنى لأرى رءوساً قد أينعت وحان قطافها». (29) بينما الإمام عليّ يمنع اثنين من أنصاره خرجا يسبّان أهل الشام، فقالا له: «ألسنا على حق...؟ قال: بلى، قالا: فلم منعتنا من شتمهم؟ قال: كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين».(30) كلمات عليً كانت فى خدمة النبوة. أما كلمات معاوية وعماله فقد أنهت مسيرة الرشد. يقول عتبة بن غزوان: «إنه لم يكن نبوة قط إلا تناسختها جبرية»..يعنى الجبروت. والحاصل أن معاوية كسب المعركة حياً، لكنَّ «علياً» انتصر حيّاً، بشرف الشهادة، وبعد موته بشرف الذِّكْر. الكلمة، لأنها المتكلم، جعلت من عليّ «مثلا»، والكلمة، لأنها الهوى والشهوة، جعلت من معاوية «عبرة». الأقدام الغريبة فإذا انتقلنا من البادية إلى المدينة (مصر الحديثة)، نكون قد انتقلنا بين حياتين للكلمات.. حياة فائرة تبدو فيها اللغة، لفرط الشغف بها، أكبر حتى ممن يتكلمونها حتى ليخيل إليك أن «الحياة تُختصر فى كلمات وأن الكلمات أروع من الأفعال» (31)، وحياة أخرى تخلصت فيها المدينة من إكبار لغة الأعراب، وأتاحت للنساء حظاً أوفر من التعبير عن الأنوثة. (32) كلمات الصحراء سمتها الإقلال، وتحرى الصواب، وشىء من الحرارة والغضب.(33) أما فى المدينة، فيُراد لها «أن تخدم الحركة المستمرة، لأنها لا تحفل بهدف الحفظ الذى يسيطر على البادية... البداوة هى معلم التقديس على خلاف المدينة، والبداوة قائمة على الخطاب، والمخاطب الفعلى الذى يتلقى ويسمع ويؤثر، لكن المدينة قائمة على الكتاب. والكتاب لا يعرف قارئه على التحديد، لذلك يتاح للكاتب أن يتوفر على النص بأكثر مما يتاح للخطيب أو الشاعر فى البادية» (34) ولا شىء يحرك دوافع المدينة كالمقاومة. الكلمة المقاومة حبل سرى يربط الجماعة ويحول غضبها إلى ألغام تحت الأقدام الغريبة. ولأن هذه الكلمة تمتلك الحماس واليقين سرعان ما تصبح عدوى، وتصبح نبوءة. يقول مصطفى كامل من خطبة له بالإسكندرية سنة 1907، متحدثاً عن استقلال مصر كحتمية :«إن العامل الواثق من النجاح يرى النجاح أمامه كأنه أمر واقع، ونحن نرى من الآن هذا الاستقلال المصرى، ونبتهج به، وندعو له كأنه حقيقة ثابتة، وسيكون كذلك لا محالة !» (35) الأبناء يأكلون ثورتهم ثورة يوليو 1952 انتخبت جمال عبدالناصر قائداً لها، وإن لم أشعر به كخطيب.. ليس لصوته بسطة جسمه، ولا نفوذ عينيه. كان لسان الزعيم عادياً، لكن أحداً لم يسبقه إلى حرارة إيمانه بوطنه وما حلم به، وما حققه له، وإن قصّر ما قدمه عن طموحاته لنا وعن آمالنا فيه. يقول الزعيم، من خطبة الأزهر :« واليوم أيها الإخوة ونحن نقابل عدوان الظلم والاستعمار... نطلب من الله أن يلهمنا الصبر والإيمان والثقة والعزم والتصميم على القتال...إن الموت أيها المواطنون حق على كل فرد منا، ولكن إذا متنا يجب أن نموت بشرف». أما غضب ثورة يناير فلم يترجم فى خطب مأثورة ولا فى زعيم مأثور أكثر مما تُرجم فى شعارات عظيمة، وحفنة من «صبية الثورات» لمعت بعض الوقت ثم انطفأت. هناك متكلمون كثيرون اعتلوا المنصة، لكنَّ ميدان التحرير ظل أبلغ خطيب، وبقيت حشوده أعظم خطبة قيلت فى حراسة الدبابات. الشاهد أن الكلمات لم تُخلق للثرثرة. يجب أن ننزه «رأس مالنا» عن السفه. حتى لا تكون سلعة رخيصة فى كل فم، أو جلبة تهبط علينا بالبراشوت.. «برشطة». هل قلت إن حياتنا مخنثة وأن التعافى منها يبدأ من اللغة. ثمة علاقة عضوية بين اللغة والسلوك. أنت حين تفتح فمك فلستَ وحدك من يتكلم. «اللغة هى التى تتكلم أو الجماعة كلها. اللغة صوت الجماعة، صوت الالتقاء العظيم... اللغة أو المجتمع يصنع أفكارنا وتصوراتنا وحاجاتنا إلى حد ما... من خلال اللغة يستيقظ المجتمع، ومن خلال وجه آخر منها يستيقظ الفرد بخصوصيته». (36) لا بديل عن إحياء الكلمات، لأننا، الآن، عراة. هوامش وظائف الكلام ثلاثة: الأولى إيصال المعلومات والحقائق، وهذه هى الوظيفة البلاغية للغة، والثانية الرغبة فى التعبير عن مشاعرنا، وهذه هى الوظيفة التعبيرية. وأخيراً نحن نتكلم، لكى ندفع الناس إلى العمل. وهذه هى الوظيفة التوجيهية. وإن لم توجد حالة غير مختلطة بأخرى. راجع: ليونيل روبى، فن الإقناع، ت الدكتور محمد على العريان، مكتبة الأنجلو، ص 87 محمد عبدالغنى حسن، الخطب والمواعظ، دار المعارف، ص9 الإسلام دين المستقبل، روجيه جارودى، ت عبدالمجيد بارودى، دار الإيمان، ص 22 خطباء اليونان، ج ف دبسون، ت أمين سلامة، مؤسسة التضامن العربى، ص 7 عن فن الخطابة، أحمد الحوفى، دار نهضة مصر، ص5 حكايات صحفية، حافظ محمود، «كتاب اليوم»، ص 86. يقول رافالور: «الأهواء والعواطف هى الخطيب فى الجماهير». عن الحوفى، 49 حكايات صحفية، ص 85 فن الإقناع محاورات مع النثر العربى، مصطفى ناصف، عالم المعرفة، ص 18، 21 خطباء اليونان تاريخ الأدب العربى، جرجى زيدان، ط دار الهلال، ج 1 ص 167 الخطب والمواعظ، ص9 عن خطباء اليونان، بتصرف، وأصل التعبير «إن ثيموستوكليس يدين بعظمته إلى كون مدينته عظيمة». ص12 البيان والتبيين، الجاحظ، ت عبدالسلام هارون، دار الفكر، ج 1 ص 81 نفسه محاورات مع النثر العربى ص101 أونج، الشفاهية والكتابية، ت حسن البنا عز الدين، عالم المعرفة، ص 51 محاورات ص 48 السابق 47 الخطب والمواعظ، ص62 السابق 63 الإمامة والسياسة، ابن قتيبة ص31 السابق 129 ( 24) محاورات مع النثر العربى، ص101 ( 25) عبدالحليم محمود، السيد أحمد البدوى، دار المعارف، ص 8 الخطب والمواعظ، ص63 السابق ص22 (28، 29) السابق ص 64 (30) نفسه (31) محاورات مع النثر العربى، ص 52 (32) السابق 46 (33) السابق ص 84، 91 (34) نفسه (35)الخطب والمواعظ، ص 90 (36) محاورات مع النثر العربى، ص 31