قرأت منذ فترة قصيدة شهيرة للشاعر الأنجلو أمريكي ت. س. إليوت(1888-1965), بعنوان الرجال الجوف تدور حول المجتمع الأوروبي بعد الحرب العالمية الأولي, في ظل معاهدة فرساي, وصعوبة الأمل في الحوار الديني. تقول في مطلعها: نحن الرجال الجوف/ نحن سقط المتاع/ كتفا لكتف وعلي بعضنا نتكئ/ وا حسرتاه/ فخوذة الآمال يملؤها الضياع/ وحين الهمس يسري بيننا/ فصوتنا يباب/ بلا معان. تبدو القصيدة في أيامنا معبرة عن أحوال فريق من المصريين منح نفسه حق الكلام والثرثرة عبر الفضائيات والصحف والإذاعات باسم المصريين جميعا. وهذا الفريق لا يبحث عن خير الوطن وكرامته, لكنه يبحث عن تحقيق طموحاته الخاصة والفوائد التي تعود عليه; دون نظر إلي اتفاق ذلك مع الأخلاق والقيم والدين أو تعارضه, مع أنه في الغالب يتعارض ويتنافي. معظم هذا الفريق ينتمي إلي النظام الفاسد البائد ومن صناعته الفاسدة سواء كان في الوظائف الكبري أو الإعلام والصحافة أو في الحياة العامة, أو قل إنه النواة الصلبة للنظام الفاسد التي لم تتغير بعد الثورة وتسعي لإعادة الدولة المستبدة الفاشلة. وفي المقابل يأتي صوت الشعب المصري ممتلئا بالأمل ومترعا بالرغبة في التغيير, ومصرا علي إقامة العدل, ومشبعا بتقنين قيم الأخوة الوطنية والمساواة والحرية والكرامة الإنسانية وغرسها في تربة الحياة المصرية بحيث لا يخلعها أحد, ولا يؤذيها شخص أيا كان منصبه أو وضعه الاجتماعي. الرجال الجوف في مصر مشغولون بتفريغ الشعب المصري من وهج الأمل وتفزيعه, يسهرون الليل والنهار لإقناعه أن لا أمل هناك, وأن قوي الظلام هي التي ستفرض إرادتها علي الثورة والثوار. بعضهم لا يخجل من إعلان انتهازيته الرخيصة وتحولاته من أجل الفتات الذي تلقيه هذه القوي. ولعل من ثمار الثورة أنها كشفت هؤلاء المتحولين الانتهازيين المنافقين, وقدمتهم للناس بلا غطاء أو ساتر, ومع ذلك فلديهم صفاقة عجيبة, لا تعبأ بالناس, ولا مشاعرهم. وكل حادثة تجري بعد الثورة, أو كل موقف سياسي يجري علي الساحة, يقدم للناس مزيدا من المعلومات والمعرفة عن الرجال الجوف, ويقنع الناس أن الثورة ضرورة لتغيير النظام تغييرا كاملا, حتي لو تقنع الخاوون المفرغون بمظلة قوانين الرئيس المخلوع وقراراته التي سبقت خلعه في الحادي عشر من فبراير.2011 علي سبيل المثال كان موقف الرجال الجوف من عودة مجلس الشعب نموذجا لدفاعهم عن النظام الفاسد البائد باسم احترام القانون وسيادة القانون, مع أن الرئاسة لم تخدش القانون, وأعلنت عن احترامه وتقديره, وأنها تتحرك في المتاح قانونا حتي يتم صياغة الدستور, وتتم الدعوة إلي انتخابات مبكرة بدلا من الفراغ التشريعي الذي حدث بغياب المجلس. لنا أن نتأمل مقولات القوم تعليقا علي عودة المجلس التي فرح بها الشعب كله باستثنائهم وأوقفها حكم قضائي. أحدهم يقول: صمت العسكري علي عودة البرلمان يعني الموافقة والمشاركة, وآخر يقول: القرار دعوة للمبارزة السياسية.. وثالث: يهدر الأحكام القضائية.. ورابع يصرح: الآن يحكمنا مكتب الإرشاد.. ويجب محاصرة قصر الرئاسة وعزل الرئيس ومحاكمته, وخامس يعلن: انقلاب دستوري وصدام مع العسكري.. والأولي توفيق وضع الإخوان, وسادس: لن أعلق علي قرار الرئيس ولن أسمح بالمساس بالمحكمة الدستورية, وسابع: قرار عودة البرلمان صدر من شوري الإخوان وثامن: يدعو القوي المدنية لاجتماع طارئ لبحث قرار عودة البرلمان, وتاسع: يحرض الجيش علي الانقلاب العسكري علي الرئيس ومحاكمته... هؤلاء جميعا وأمثالهم من أبناء مبارك الذين عاشوا علي حجر دولته البوليسية المستبدة الظالمة, منهم الناصري ومنهم الشيوعي, ومنهم الملحد, ومنهم الذي يبحث عن حماية شركاته وأمواله الحرام, ويتمني عودة مبارك اليوم قبل الغد, ويتمني موت الثورة, وموت الثوار, ويساعد علي ذلك إعلام فاسد مضلل كذاب, ينفخ في بعض الحوادث الفردية الصغيرة, ويعممها علي الإسلام والمسلمين بقصد شيطنة الإسلام, وتشويه صورة المسلمين, مع أن هؤلاء يحملون أسماء إسلامية جميلة لا يستحقونها, لأن سلوكهم غير جميل. الرجال الجوف لا يؤمنون بالديمقراطية ولا يقبلون بنتائج الصناديق إلا إذا جاءت بهم, وأعلنت نجاحهم, ولكنهم للأسف لم ينجحوا في الانتخابات التشريعية والرئاسية, وعرفوا أحجامهم الحقيقية من خلال التصويت الحر الشفاف الذي لم يأت إلا بأفراد قلائل منهم. وفي الدول الديمقراطية يتقبل المهزوم نتيجة الصندوق, ويعمل مع الفائز, ويجتهد كي يفوز في جولة مقبلة, أما عندنا فالرجال الجوف يعلنون الحرب علي الفائز, ويضعون في طريقه العقبات, ويتفننون في صناعة المتاعب, وشن المعارك الجانبية من أجل إشغال الفائز عن تحقيق أي إنجاز يحسب للوطن والناس جميعا. إنهم للأسف كما يقول إليوت يحولون أنفسهم إلي سقط متاع, وإلي عزيمة مشدودة بلا عضد, وذلك كله من أجل الأهداف الشخصية, والأغراض الحزبية الرخيصة, فهم خامدون كالريح تعوي في يابس الحقول والفجاج أو أقدام جرذان فوق مهشم الزجاج ونحن في قبونا السراب شكل بلا جسد ظل بلا ألوان! إن كثيرا من الأمور التي تؤسس لقيام المجتمع الديمقراطي المنتج يمكن أن يتم الاتفاق عليها لو خلصت النوايا في أسرع وقت ممكن, مثل الدستور والأمن والمجالس النيابية والمحلية وانتخاب المحافظين, وتطوير التعليم والجامعات, ومشكلات الخبز والوقود والدعم الذي يذهب إلي جيوب المحظوظين, وغير ذلك من قضايا تمسك بتلابيب المواطن البائس الفقير. لقد قامت في مصر ثورة من أعظم الثورات, ويجب علي الرجال الجوف أن يتوقفوا عن انتهازيتهم الرخيصة, وأن يثقوا أن الشعب ممتلئ بالرغبة في العمل والانتصار علي المتاعب وتخطي العقبات, وتجاوز التحريض السافر, فأبناء الوطن في المؤسسات كافة أقوي من التحريض والمؤامرات والخواء أيضا. المزيد من مقالات د.حلمى محمد القاعود