فى الاسبوع الماضى قررت إيران وقف تدريس اللغات الأجنبية فى المرحلة الابتدائية فى جميع مدارسها لإعطاء الفرصة كاملة لتدريس اللغة الفارسية للتلاميذ الصغار..والقرار لاشك يحمل أكثر من دلالة لأن الشعوب الحية تخاف على ثوابتها وليس هناك أهم ولا أخطر من اللغة لأنها روح الشعوب وكيانها..على الجانب الآخر فإن إسرائيل قررت منذ فترة بعيدة تدريس اللغة العربية فى كل مراحل التعليم بل إنها شهدت أزمة كبيرة حين قررت تدريس قصائد محمود درويش شاعر المقاومة فى مدارسها.. أقول هذا وقد وصلتنى ردود أفعال واسعة حول ما كتبت فى الأسبوع الماضى عن محنة اللغة العربية فى عالمنا العربي وكيف أنها تراجعت بصورة مخيفة فى البيت والمدرسة والمصالح الحكومية والمحلات واللافتات بل فى خطب الجمعة وأحاديث المسئولين.. إن إهمال اللغة العربية من الجرائم الكبرى فى تاريخ هذه الأمة وهو عار سوف تحمله الشعوب وسوف تدفع ثمنه أجيال قادمة حين نراها ونسمعها وهى عاجزة عن أن تتكلم لغتها أو تحفظ قرآنها أو تكتشف أسرارها . هناك أسباب كثيرة وراء هذه المحنة بعضها فى البيت والأسرة وبعضها فى مناهج التعليم والإهمال المتعمد لهذه اللغة..إن المدارس الدولية فى مصر لا تهتم إطلاقا باللغة العربية بل إن التعليم الخاص كله يضع أولوية للغات الأجنبية، هذا تعليم إنجليزى وهذا فرنسى وهذا ألمانى وهذا يابانى.. كل هذه المدارس تهتم بلغاتها ولا تعنيها اللغة العربية. فى أحيان كثيرة أشاهد أسماء المحلات وجميعها باللغات الأجنبية ثم تأتى الإعلانات وهى أيضا باللغات الأجنبية ولم يبق غير أن يستبدل المواطنون أسماءهم من العربية الى اسماء أجنبية..من يتابع المناهج الدراسية التى تستخدم فيها اللغة العربية يكتشف أنها تختار أسوأ الأساليب والكلمات فى صياغة الموضوعات، إن القضية الأكبر الآن أن المراسلات بين الحكومات العربية تكتب باللغات الأجنبية ومنها المؤتمرات والدعوات وهذا يعنى أن الدول لا تهتم بلغتها بل إن الأجيال الجديدة لن تستطيع الكتابة باللغة العربية.. وقبل أن نجد أنفسنا أمام كارثة ثقافية وحضارية ودينية ممثلة فى أجيال لا تعرف لغتها فإن الأمر يحتاج إلى مواجهة سريعة وحاسمة..كثيرا ما تشاهد الأب يقف منتشيا وهو يقول لك إن ابنه لا يتكلم العربية ويطلب من الابن المسكين أن ينطق بإحدى اللغات الأجنبية حتى إن بعضهم كان يرسل لى قصائد شعر بالفرنسية أو الإنجليزية. إن القضية تجاوزت حدود الشعوب وأصبحت كارثة قومية لأن آخر ما بقى لنا أعداد قليلة من المواطنين فى العالم العربى يجيدون الحديث باللغة العربية حتى إن هناك من يشجع اللهجات العامية فى كل شىء بل إن هناك مسابقات على مستوى العالم العربى جميعها تشجع اللغة العامية..ولن يكون غريبا أن نشاهد قريبا مسابقات بين أبنائنا فى كتابة الشعر الإنجليزى أو الفرنسى أو الإيطالى . إن التعليم الأجنبى يجتاح الآن كل العواصم العربية وهو مصدر ثراء كبير لأصحابه ولكن لماذا لا تطلب الحكومات بحكم سلطتها من المؤسسات التعليمية الأجنبية أن تضع اللغة العربية فى قائمة اهتماماتها ومناهجها وتشجع الطلاب فى المدارس على حب لغتهم..لماذا لا تقوم هوجة بين سلطات القرار العربية لمنع المسميات الأجنبية للمحلات والشركات والمؤسسات والأندية والمطاعم وإذا كان ذلك أمرا مستحيلا فلنكتب الأسماء بالعربية أولا وتحتها الأسماء الأجنبية.. لقد أصبحت أخشى على أسماء المدن فى العالم العربى أن تكتب بالإنجليزية أو أن تتحول أسماء الشوارع إلى مسميات أخرى أو أن نسمى أطفالنا بأسماء غربية، إن هذا ليس اعتراضا على كل ما هو اجنبى ولكن حين تخسر الأمة لغتها فهذا يعنى خسارة كل شىء لأن اللغة هى التاريخ والجغرافيا والأماكن والأشخاص والذكريات وقبل هذا كله فإن اللغة هى القرآن بكل ما له من القيمة عقيدة وإيمانا ولغة ودورا فى حياة الناس هنا ينبغى أن نطرح على أنفسنا عددا من التساؤلات : إن قضية اللغة العربية لا تخص فقط المؤسسات التعليمية ولكنها ترتبط ارتباطا وثيقا بالمؤسسات الدينية وفى مقدمتها الأزهر الشريف والمؤسسات الدينية فى العالم العربى، أين المؤتمرات التى تعالج قضايا اللغة العربية وأين المجامع اللغوية وفى مقدمتها مجمع اللغة العربية فى مصر، إن المؤسسات الدينية هى الحصن الحقيقى للغة القرآن الكريم وحين تهتم هذه المؤسسات باللغة العربية فهذا جزء من مسئوليتها عن حماية العقيدة التى يدين بها الملايين..إن خطورة اللغة العربية ليست فقط فى انها لغة العرب ولكن لأنها لغة القرآن وأكثر من مليار ونصف يدينون بالإسلام..وحين تخبو اللغة العربية وتتراجع أمام شعوبها فهذا يعنى ان الإسلام يخسر أهم مقوماته وهى لغة القرآن . لا أتصور أن نتحدث عن الخطاب الدينى ونتجاهل دور اللغة العربية فى هذا الخطاب، إن بعض الأئمة يخطئ فى نطق اللغة العربية وبعض المتطفلين على قضايا الدين يجتهدون دون علم أو دراسة ولا أتصور من يخطئ فى قواعد اللغة العربية أو نطق الآيات القرآنية أن يكون صاحب رأى أو اجتهاد . إن اللغة العربية من أهم جوانب الخطاب الدينى الذى نسعى الى إصلاحه وحين تنهار هذه اللغة فلن يبقى شىء نجتهد حوله أو نختلف فيه..إن تراجع اللغة العربية يعنى تراجع العلاقة مع التراث وربما أدى ذلك إلى دمار كل الجسور بيننا وبين الثوابت الدينية واللغوية التى تربطنا بالخطاب الدينى.. من هنا فإن على جميع المؤسسات الدينية والثقافية والفكرية أن تكون محنة اللغة العربية واحدة من أهم الظواهر التى ينبغى أن يتوقف عندها الخطاب الدينى..هناك جدل كبير يثور حول قضايا كثيرة فى القرآن الكريم فكيف يكون ذلك دون صحوة حقيقية للغة القرآن فى كل جوانبها . لا أدرى ماذا تفعل الآن جامعة الدول العربية فى دورها الفكرى والثقافى وأين منظمة الثقافة العربية، أعلم أن هموم السياسة لم تترك مساحة لأى قضايا أخرى ولكن دور الجامعة العربية مطلوب فى هذه الظروف الصعبة أمام أزمة حقيقية تعيشها اللغة العربية هناك ما يحدث فى المناهج والمؤتمرات والجامعات والمؤسسات الثقافية وجميعها تتطلب نوعا من التنسيق بين دول الجامعة بل إن العالم العربى كله لا يعرف شيئا عن الملايين من العرب المهجرين إلى دول العالم وماذا يجرى فى صفوفهم لغة وثقافة ودينا..إن بينهم ملايين الأطفال والشباب الذين خرجوا من أوطانهم وثقافتهم واحتوتهم أوطان وثقافات ولغات أخرى فماذا نعرف عن أحوالهم وماذا حدث لهم. هل يمكن أن تكون محنة اللغة العربية فى يوم من الأيام قضية أمام قمة عربية قادمة من حيث الأهمية والضرورة والخطورة، إنها تستحق بجدارة أن تتصدر لقاء القمة أو على الأقل إحدى اللجان المسئولة..إن القضية تحتاج الى قرارات مسئولة تعيد للغة العربية مكانتها ونحن نعلم مدى أهميتها على كل المستويات السياسية والثقافية والدينية وأخشى أن نشهد يوما مؤتمرات باللغات الأجنبية وتكون فيه اللغة العربية شبحا منبوذا مرفوضا بين أبنائها. يبقى بعد ذلك دور الجامعات العربية ومنها من بقى محافظا على دوره ورسالته فى خدمة اللغة العربية والحرص عليها ومنها من تنكر لها قولا وفعلا وكنا فى زمان مضى نشاهد المؤتمرات والندوات واللقاءات التى تهتم بها وتدور فى كل العواصم العربية ولكننا الأن نشهد حالة من الإهمال تحت دعاوى المعاصرة والحوار مع الآخر وفتح الأبواب ونجد من المثقفين والباحثين من يهرول إلى الخارج باحثا عن فرصة أو ساعيا إلى دور وتكون وسيلته الوحيدة أن يتنكر أولا لجذوره وثوابته ولغته حتى يجد أبوابا مفتوحة..لقد دخل فى ذلك أيضا كتابات تحمل اسم الإبداع الأدبى وللأسف الشديد أنها تحمل لغة ركيكة وألفاظا فجة ولم يعد ذلك قاصرا على رواية أو حكاية ولكنه انتقل كالوباء إلى الغناء الهابط بكل ما يحمله من سوقية الكلمة وإسفاف الألفاظ وهذه جميعها تحتاج إلى مواجهات حاسمة ليس بالحبس أو الإدانة ولكن على أجهزة الرقابة الفنية أن تمارس دورها فى حماية الذوق العام وهذه إحدى مسئوليات الدولة.. وقبل هذا كله فإن على الإعلام مسئولية ضخمة فى حماية اللغة العربية وتأصيلها ولا يمكن ان يتم ذلك إلا من خلال تدريب المواهب الإعلامية الواعدة على الاستخدام الصحيح للغة العربية الفصحى وان يحاسب الإعلاميون على مدى استيعابهم لثوابت هذه اللغة. إن إهمال وتراجع اللغة العربية جريمة لن يغفرها التاريخ للأجيال الحالية وحين يجلس أبناؤنا فى البيوت لا يتحدثون لغتهم ولا يقرأون قرآنهم ولا يعرفون رموزهم سوف نجد فى الشوارع أجناسا متفرقة، كل واحد يتحدث لغة مختلفة وسوف نردد ما قاله الشاعر القديم أضاعونى وأى فتى أضاعوا..أرجو ألا نعيش يوما نجد فيه لغتنا العربية لغة القرآن الكريم فى متاحف التاريخ مع كل اللغات المنقرضة .