قبل25عاما حينما كانت الساحة الأدبية والمسرحية تودع الرائد الكبير توفيق الحكيم, حالفني الحظ أن أقدم إعدادا جديدا لمسرحية الحكيم رحلة قطار.. وأن تعرض هذه التجربة في المهرجان الأول للمسرح التجريبي. لم أكن قد مارست الكتابة للمسرح من قبل, كنت مجرد هاو لفن الشعر أجلس علي مقهي في حي الحسين ومعي مجموعة من الشعراء الشباب وقتها جمال بخيت وابراهيم عبدالفتاح ومحمود جمعة, كنا نتسامر ونسمع بعضنا البعض ما كتبناه من أشعار وأغان, وفوجئت بشخص لم أكن أعرفه يثني علي كتابتي ويقول لي انت تتمتع بحس درامي عال, هل تحب أن تجرب الكتابة للمسرح قلت نعم, قال أنا اسمي هاني مطاوع أعمل مخرجا مسرحيا, وكان بلاشك في غني عن استكمال التعريف لان مسرحياته تحقق نجاحا ضخما ومنها شاهد ماشافش حاجة للنجم عادل إمام, وأعطاني الدكتور هاني مطاوع مسرحية رحلة قطار لأقرأها, كان الحكيم يتحدث عن قطار بطئ يتصارع فيه السائق والمساعد علي تحديد نوع الإشارة هل هي خضراء أم حمراء, ويظل الجدل العقيم بينهما هل نتحرك ونأخذ المغامرة أم نتوقف لنتدارس القرار.. وكانت النتيجة أن قطارا مسرعا كحركة الحياة جاء من الخلف واصطدم بهما فلم يتمكنا من التقدم ولا من انقاذ القطار, وهو ما كان النقاد يحلو لهم أن يسموه بالمسرح الذهني,ولكن الحقيقة أن رحلة قطار كانت مسرحية ممتعة تتميز بالحوار المتدفق الذكي الذي لا يخلو من طرافة وخفة ظل عمنا توفيق الحكيم, وقد قدمنا- دكتور هاني مطاوع وأنا- رؤية شعبية لقطار يملؤه الركاب ويتنوعون من أبناء الطبقة الراقية والصعاليك واللصوص والذاهبين لقضاء مصالحهم ومن بينهم شيخ ضرير وعريس وعروس, وعندما يتوقف القطار يشارك الركاب في التجربة الديمقراطية ويدلي كل منهم برأيه في لون الإشارة, عدا شاب ريفي يتضح أنه جندي في سلاح الإشارة ويخشي أن يدلي بأسرار عسكرية قد تضر وطنه, وأيا كان مستوي ذلك العرض إلا أنه كشف لنا عن قدرة مسرح الحكيم الفكري علي أن يتواصل ويبقي حيا علي مدار السنين, لأن الأفكار الإنسانية الكبيرة والقضايا المصيرية لا تقدم ولا تتغير مع مرور الوقت, ولعلنا نحتاج الي تفسير اتجاه استاذ المسرح المصري توفيق الحكيم الي كتابة ما اتفق أغلب النقاد علي تسميته بالمسرح الذهني, فتوفيق الحكيم بدأ مشواره مع كتابة المسرحيات في فرقة عكاشة, وقدم لها مسرحية خاتم سليمان والعريس في عام1924 وشاركه الكتابة زميله في كلية الحقوق مصطفي ممتاز, وفي عام1925سافر توفيق الحكيم الي فرنسا لاستكمال الدراسات العليا في القانون علي نفقة أبيه لكنه كما تقرر الدكتورة فاطمة موسي في كتاب قاموس المسرح, انصرف الي مشاهدة العروض المسرحية والاستماع للموسيقي الكلاسيكية والاطلاع علي عيون المسرح العالمي, وقراءة الأدب والفلسفة حتي عاد الي مصر دون حصوله علي الدكتوراه, وبالتأكيد أثرت تلك الثقافة الرفيعة علي ذوق توفيق الحكيم ووجد أنه لن يحقق ذاته بكتابة عروض ملهاوية تناسب متطلبات الفرق في تلك الفترة, وكتب توفيق الحكيم في عام1933مسرحيته الرائعة أهل الكهف, التي أثارت ضجة كبيرة في الوسط الأدبي والمسرحي, وفيها يناقش قضية الصراع بين الإنسان والزمن وانتصار الزمن مهما حاول الانسان أن يعترض مسيرته, وقد مثلت المسرحية في افتتاح الفرقة القومية المصرية عام 1935 ومن بعدها تنوعت كتاباته المدهشة والتي لم تسر علي وتيرة واحدة وانما كان دائم التجدد والتجريب في مختلف الأشكال ومختلف القضايا, ولعل من أهم أعماله شهرزاد 1934, وبجماليون 1942التي افتتح بها مسرح الحكيم في عام 1964, وأوديب وبراكسا ومشكلة الحكيم وسليمان الحكيم وياطالع الشجرة التي تنتمي الي تيار مسرح اللامعقول, وشمس النهار المستلهمة من الحكايات الشعبية العربية والسلطان الحائر التي تثير سؤالا سياسيا خطيرا أيهما أهم القانون أم القوة؟! ورصاصة في القلب التي تحولت الي فيلم سينمائي شهير لعب بطولته الموسيقار محمد عبدالوهاب, والأيدي الناعمة التي تحولت أيضا الي فيلم سينمائي تشارك في بطولته أحمد مظهر وصباح وصلاح ذوالفقار, ولعل من أجمل ما كتب أستاذ الأجيال توفيق الحكيم مسرحية خيالية تحمل عنوان رحلة الي الغد وتحكي عن مسجون ينتظر تنفيذ حكم الاعدام فيه, وتقرر ادارة السجن أن تخيره بين الاعدام وبين الانطلاق في صاروخ الي مجهول في رحلة ليست فيها أي ضمانات, ويوافق المتهم لأن الموت المحتمل أفضل بالنسبة له من الموت المؤكد, ويسافر الصاروخ الي الفضاء ويعود في زمن المستقبل لنشاهد خلال الرحلة اختراعات عجيبة تحقق بعضها الآن عن طريق التواصل بالانترنت وسهولة تداول المعلومات, ولم يتحقق بعضها مثل قراءة الأفكار وتوفير الوقت الذي نستغرقه في التحدث والثرثرة.. ونري قضايا يتصور الحكيم حلها بالعلم وقضايا أخري تنشأ نتيجة لسطوة العلم والمادة علي حياة البشر, وفي تصورنا سيظل مسرح الحكيم شامخا نابضا بالحياة, مشيرا الي ضرورة التجدد والتنوع وايجاد آفاق جديدة لفن المسرح.