كان من ضمن ما أبرزته المواقف المتباينة إزاء الاحتفال بالذكري الستين لثورة23 يوليو1952, ضمن أمور أخري عديدة, الخلاف في التقييم فيما بين مختلف أطياف المشهد السياسي المصري تجاه محطات رئيسية في تاريخ مصر. وهذا الخلاف ليس جديدا أو مستحدثا, ولذا نقول إن الذكري الستين لثورة يوليو أبرزته ولم توجده لأول مرة, بل هو قديم ومستمر ومتواصل ويتم ترحيله من مرحلة إلي أخري بدون تسوية وطنية توافقية, وإنما ربما أحيانا يتم اللجوء إلي قرارات إدارية تتصف في الأغلب الأعم بالطابع الأحادي أو حتي تميل للتعسف في تبني وجهة نظر دون أخري في الحكم علي قرار ما أو خطوة ما في إطار التطور التاريخي للسياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي المصري. ويلزم التنويه هنا إلي أن هذا المسار لا يقتصر علي ثورة23 يوليو1952 وما تلاها من أحداث, بل إنه حتي لا يقتصر علي تاريخ مصر الحديث والمعاصر, بل يضرب بجذوره في أعماق التاريخ المصري الثري وعلي مدار محطاته الرئيسية. وتخضع تلك الخلافات في تفسير الأحداث والمراحل التاريخية إلي مؤثرات فكرية وسياسية في الأساس بشكل أكثر بكثير من كونها تخضع لاعتبارات علمية أو موضوعية, وهو الأمر الذي يزيد كثيرا من صعوبة التوصل إلي رؤية شاملة للحدث الواحد من مختلف الزوايا وبما يأخذ في الاعتبار مختلف وجهات النظر بشأنه. ومن الهام ألا تكون مهمة كتابة تاريخ مصر مصداقا فقط للمقولة القديمة التي تعتبر أن التاريخ يكتبه المنتصرون, بمعني أن الفكر والتيار الذي يكون ممسكا بزمام السلطة ومسيطرا علي مواقع تشكيل الرأي العام في لحظة تاريخية بعينها هو الذي يملي عملية كتابة التاريخ, أو علي أقل تقدير يحدد معايير القيام بعملية الكتابة تلك, بل أن تكون عملية إعادة كتابة التاريخ مستهدفة أن تكون تأريخا للشعب المصري بأسره وبكل مكوناته وأطيافه, بانتصاراته وهزائمه, وبإنجازاته وإخفاقاته. ولا يوجد ما يمنع من تعدد التفسيرات لأحداث التاريخ, سواء في الحالة المصرية أو غيرها, عندما يكون الأمر محلا لنقاش أو جدل سياسي, ولكن الأمر يختلف عندما نتحدث عن التاريخ باعتباره مادة تعليمية للأطفال والنشء والشباب, سواء في شكل مواد الدراسات الاجتماعية أو التربية الوطنية أو غيرها. ففي الحالة الأخيرة, يتعين التوافق حول منهج موحد لفهم وتفسير وتدريس التاريخ في المدارس والجامعات حتي تكون هذه العملية متناغمة ومنسجمة ومتسقة فيما بين مقوماتها أيا كان النظام التعليمي الذي يدرس هذا المنهج في إطاره. وقد شهدت مصر من قبل محاولات عديدة لكتابة التاريخ المصري, خاصة التاريخ الحديث والمعاصر, بشكل موضوعي ومتفق عليه بما يعكس حالة من التوافق الوطني وبما يسهم في تحقيق مصالحة تاريخية فيما بين مختلف مراحل التاريخ المصري الحديث والمعاصر والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية الرئيسية والفاعلة فيه. وقد اتصفت بعض هذه المحاولات بالجدية بينما كان البعض الآخر أقل جدية, كما كان بعضها متصفا بالحيدة والبعض الآخر خاضعا لتوجيه سياسي, كذلك كان البعض منها بمبادرة من جهات رسمية بينما البعض الآخر تم من خلال جهود مؤسسات المجتمع المدني. ومن هذه المحاولات لجنة توثيق تاريخ ثورة يوليو التي تشكلت في عهد الرئيس الراحل أنور السادات, وكذلك وحدة دراسات الثورة المصرية بمؤسسة الأهرام. ولا يمكننا الانتقاء فيما يتعلق بعملية إعادة كتابة التاريخ المصري, خاصة في شقيه الحديث والمعاصر, ولا يعني ذلك عدم وجود موضوعات ومناطق موضع توافق بالفعل, ولكان هناك بالمقابل مواقف أكثر لا تزال بعيدة عن التوافق, وفي بعض الأحيان تفتقد حتي للمعلومات. ولا توجد فرصة أفضل من الاستفادة المزدوجة من الاحتفال بالذكري الستين لثورة23 يوليو1952 من جهة ومناخ وأجواء مصر في عصر ما بعد ثورة25 يناير2011 من جهة أخري والتي تتسم, علي الأقل حتي اللحظة الراهنة, بقدر كبير من الحرية, لإطلاق مشروع وطني لإعادة كتابة تاريخ مصر تحت رعاية جهات لها مصداقيتها لدي جميع الأطراف, وبما يكفل توفير رؤية متفق عليها وطني وعلي أسس منهجية علمية وموضوعية وعلي أرضية الالتزام الوطني في المقدمة, علي أن يكون الناتج مادة تاريخية ووطنية مقدمة لأبنائنا وبناتنا في المدارس والجامعات. وفي هذا السياق, سنورد أحداثا علي شكل رءوس موضوعات كمجرد أمثلة علي مواقف تستحق المراجعة علي الأسس التي ذكرناها بما لا يقتصر علي فترة تاريخية دون أخري, فيصدق ذلك علي خلفيات نجاح الاحتلال البريطاني لمصر عام1881, بنفس القدر الذي يصدق به علي تطورات التحول إلي الملكية والاستقلال المنقوص التالي لتصريح28 فبراير1922, وأسرار حادث4 فبراير1942,, وكذلك تطور الواقع السياسي المصري بعد الحرب العالمية الثانية, وحريق القاهرة يناير1952, وأسباب ثورة23 يوليو, وأسباب ونتائج أزمة مارس1954, وهزيمة يونيو1967, ودور الحركة الطلابية بعد حرب1967 وطوال سبعينيات القرن العشرين, وانتفاضة يناير1977, والدور المصري في حرب الخليج الأولي التالية لاحتلال العراق للكويت عام1990, ودوافع ثورة25 يناير2011 ذاتها وتطوراتها. المزيد من مقالات د.وليد محمود عبد الناصر