«التقشف» و«الإصلاح».. خياران يضعهما صندوق النقد الدولى بصفته مركزا ماليا دوليا تأسس بصفة خاصة بهدف تنظيم الاقتصاد العالمى أمام أى دولة كشرطين أساسيين لإنقاذها من أزمتها المالية، لكن الصندوق أو ما يعرف باسم «قلعة النظام الرأسمالي» أصبح هو نفسه مطالبا بتنفيذ هذين الخيارين على نفسه فى ظل إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب. وتحولت الخلافات بين صندوق النقد والبنك الدوليين من جانب، وإدارة ترامب من جانب آخر، إلى معركة علنية خلال الشهور القليلة الماضية، تطالب فيها واشنطن المؤسستين بالإصلاح وترفض منحهما زيادة فى المخصصات المالية بل وتطالبهما بالتقشف. ومع وصول ترامب إلى البيت الأبيض، ومع إعلان أجندته الاقتصادية التى ترفع شعارات «أمريكا أولا»، و «عودة أمريكا دولة عظمى مجددا»، و«صنع فى أمريكا»، وجه صندوق النقد انتقادات شديدة اللهجة لسياسات ترامب، ووصفها بأنها قصيرة النظر، كما خفض توقعاته للاقتصاد الأمريكى خلال العامين الحالى والقادم بسبب السياسات الخاصة بخفض الضرائب والإنفاق المالي. وشنت كريستين لاجارد رئيسة صندوق النقد سلسلة من الانتقادات لسياسات الرئيس الأمريكي، دون الإشارة إليه بالاسم، حيث حذرت من أن السياسات المناهضة لحرية حركة التجارة تهدد بنشر حركة حمائية خطيرة تضر بالاقتصاد العالمي، وأن مسيرة العولمة ستتعرض لشلل تام مشابه لحالة الاضطرابات المالية التى رافقت اندلاع الحرب العالمية الأولي، ودعت إلى عدم الاستسلام لإغراء الحمائية والنزعة الانعزالية. وقالت لاجارد: «أتمنى ألا تكون هذه اللحظة مثل عام 1914، وأن نتعلم من التاريخ التأثير السلبى للعولمة حتى نستفيد»، وأضافت أن «موجات من الحمائية فى الماضى تسببت فى نشوب حروب حيث إنها تتسبب فى الإضرار بالنمو والاندماج والشعوب». ولم تتوقف هذه المعركة عند هذا الحد، بل ان لاجارد قالت إن مقر الصندوق سينتقل خلال 10 سنوات من واشنطن إلى بكين، فى إشارة إلى توقعات بتبؤ الصين عرش الاقتصاد العالمى لتسحب البساط من القوة العظمي. ولم تمر كل هذه الانتقادات مرور الكرام، ولوحت واشنطن، باعتبارها العضو الأكثر قوة ونفوذها يصل إلى حد صنع القرارات الاقتصادية بالصندوق، بالموارد المالية، حيث دعت صندوق النقد إلى إظهار «انضباط مالى مثالي» واتخاذ «خيارات صعبة» تهدف إلى خفض أجور إدارييه وموظفيه، وأن يكون «فعالا فى استخدام موارده المحدودة». ودعا ستيف منوتشين وزير الخزانة الأمريكى إلى تغييرات جوهرية فى الطريقة التى يعمل بها صندوق النقد والبنك الدوليان خلال اجتماعات الخريف التى جرت الأسبوع الماضي. وفى خطوة ستلقى معارضة من قبل الأعضاء الآخرين، طالب منوتشين صندوق النقد بإعادة تنظيم الطريقة التى يقدم بها خططا للإنقاذ، بينما دعا البنك الدولى إلى إعادة فحص القروض إلى الدول ذات الدخول المتوسطة مثل الصين. جاءت هذه التصريحات الرسمية بعد أيام من رد فعل ترامب الغاضب على انتقاد صندوق النقد الدولى لخطته الخاصة بتخفيض الضرائب، ووسط مخاوف مما يراه البعض هجوما شرسا ضد النظام متعدد الأطراف والمؤسسات الدولية الرئيسية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين خلال رئاسة ترامب بسبب أجندة «أمريكا أولا». وانتقد عدد من أعضاء الإدارة الأمريكية برامج الإنقاذ فى صندوق النقد حيث رأوا أنها طويلة ومعقدة جدا، ولا تفعل الكثير لإعادة النمو إلى الدول المأزومة. أما البنك الدولي، الذى مر بعملية إعادة هيكلة مثيرة للجدل خلال السنوات القليلة الماضية، فإنه مطالب أيضا بفعل المزيد من أجل كبح جماح تكاليف مكافحة الفقر، خصوصا أن رئيسه جيم بونج كيم، والكثير من حاملى الأسهم، يريدون زيادة رأس المال من أجل تنويع مصادره المالية. وطالب منوتشين بتغيير ضروري، بحيث يستهدف تمويل البنك الدولى الدول الفقيرة التى تحتاج إليه أكثر من الاقتصادات الغنية التى يمكن أن تجد مصادر أخرى لرأس المال، وذلك فى إشارة إلى الصين التى تعتبر أكبر مقترض من البنك خلال السنة المالية الحالية حيث اقترضت حوالى 2,4 مليار دولار. بالطبع يواجه صندوق النقد والبنك الدوليان معركة شرسة مع ترامب ومع نفوذ واشنطن المالى والسياسى على المؤسستين، وهذا التعبير عن النفوذ ليس وليد الإدارة الحالية، بل إن جاكوب ليو وزير الخزانة فى إدارة الرئيس السابق باراك أوباما قال إن الولاياتالمتحدة «لن تفقد دور القيادة فى الصندوق، ولا قدرتها على تشكيل الأعراف والممارسات الدولية». والمفارقة أن إصلاح «قلعة النظام الرأسمالي» لن يتم بعيدا عن أروقة السياسة الأمريكية، وهو ما تعرفه واشنطن جيدا، فبعد اتفاق مجموعة العشرين الصناعية الكبرى على منح مزيد من الصلاحيات للاقتصاديات الناشئة فى 2010، لم يتم تمرير القرار بسهولة، حيث ان أمريكا تملك حوالى 17% من القوة التصويتية. وعلى الرغم من تهديد واشنطن بالتخلى عن الصندوق، فإن لاجارد ردت بأن «الطبيعة لا تحب الفراغ، وإذا تراجعت واشنطن عن دعم الصندوق، فإن غيرها سوف يملأ هذا الفراغ». أما التحدى الثانى الذى يواجه صندوق النقد فيتمثل فى مواكبة التطورات المالية العالمية، حيث قدم ديفيد ليبتون أول نائب لمدير صندوق النقد نصيحة متمثلة فى أن المؤسسة العالمية تحتاج إلى تطوير يعكس العالم المتغير. ومنذ تأسيسه عام 1944 خلال مؤتمر «بريتون وودز»، فإن الصندوق لعب دورا حاسما ومثيرا للجدل فى استقرار الاقتصاد العالمي، وتدخل فى الاقتصادات المحلية بقروض ضخمة وشروط صعبة، مثلما حدث فى أزمة شرق آسيا عامى 1997 و1998، وفى أزمات إفريقيا خلال 30 عاما، وفى منطقة اليورو فى آيرلندا عام 2010، والبرتغال 2011، وأخيرا اليونان. أما التحدى الثالث فيتمثل فى ظهور منافسين جدد مثل بنك التنمية الجديد أو بنك مجموعة البريكس، وأعضاؤه البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، والذين يستهدفون تسريع التعاون المالى والتنموى مع الأسواق الناشئة، وبنك استثمار البنى التحتية الآسيوى «آي.إيه.إيه.بي» والذى يضم حاليا 56 عضوا مؤسسا من بينهم دول أوروبية مثل ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، إلى جانب دعوات أوروبية من أجل تأسيس صندوق نقد أوروبى يكون بديلا عن الصندوق الدولي.