في لقاء مع سفير دولة غربية كبيرة من عامين طرح السفير سؤالا عابرا عما إذا كان برنامج الحزب الوطني يتناول مشكلة المرور, وظل السؤال ماثلا في عقلي. لأنه إذا كان هدف السياسة هو الارتقاء بجودة حياة الناس والنهوض بالخدمات المقدمة إليهم, وكان العمل السياسي والحزبي يسعي لحل مشاكلهم التي يواجهونها في حياتهم اليومية, فإنه يترتب علي ذلك ضرورة اعتبار المرور قضية سياسية وضرورة الاهتمام بموضوع التكدس المروري وازدحام السيارات في شوارع القاهرة الكبري. ويترتب علي ذلك أيضا أن يكون التوجه لحلها ليس فقط كقضية مرورية أو فنية, ولكن باعتبارها موضوعا سياسيا واقتصاديا له مردود سلبي علي المواطنين, لأنه يتعلق بنتائج تنفيذ السياسات الحكومية وكيفية تعامل الحكومة معها. وازداد إلحاح هذا السؤال في الأسابيع الأخيرة مع التدهور السريع والمتلاحق في سيولة المرور في عدد كبير من أحياء القاهرة الكبري الأمر الذي جعل الانتقال من مكان لآخر يمثل هما نفسيا علي المرء وعنصرا ضاغطا علي اعصابه, فلم يعد هناك ساعة ذروة بل ازدحام وتكدس علي مدي ساعات طويلة من اليوم أدت إلي بطء سرعة السيارات وطول مدة الانتقال, ويصل الأمر احيانا إلي التوقف الكامل وإلي حالة من الاختناق المروري. لماذا حدث ذلك؟ الاسباب عديدة منها التكدس البشري في القاهرة الكبري التي يسكنها ربع المصريين والتي ينمو عدد سكانها بنسبة تفوق متوسط نمو السكان في مصر, ومنها الازدياد المطرد في عدد السيارات الخاصة التي بلغت نسبتها في القاهرة الكبري نحو50% من اجمالي السيارات في مصر كلها مما أدي إلي ازدياد الفجوة بين عدد السيارات من ناحية والقدرة الاستيعابية لشبكة الطرق من ناحية أخري, ومنها أن القاهرة الكبري مازالت منطقة جاذبة للسكان بحكم التوافر النسبي فيها لفرص العمل والتجارة والعلاج والترفيه مقارنة بالمحافظات الأخري, ومنها عدم احترام اعداد كبيرة من قائدي السيارات لقواعد المرور وترك السيارات في غير الاماكن المخصصة ومواكب الأعراس. وبغض النظر عن الاسباب, فإن الآثار المترتبة علي هذا الموضوع جد خطيرة وتستحق أن تتعامل الحكومة معها علي أعلي مستوياتها. فهناك تعطيل لمصالح الناس وطول المدة اللازمة للانتقال من مكان لآخر سواء كان المرء في سيارة نقل عام أو تاكسي أو سرفيس أو عربة خاصة, وما يستتبع ذلك من ضغط عصبي له آثار نفسية واجتماعية أسماها بعض الباحثين أخلاق الزحام والتي تتسم بالتوتر والغضب والنزوع إلي العدوانية. أضف إلي ذلك النتائج الإنسانية المترتبة علي هذا التعطيل بالنسبة لسيارات المطافئ والإسعاف والسيارات التي تحمل مرضي في حالة حرجة تتطلب العلاج. وهناك تكلفة إحلال السيارات واستهلاك الوقود( المدعم), والتدهور الذي يصيب البيئة بسبب تلوث الهواء والتلوث السمعي والبصري, وتأثير ذلك علي الصحة العامة للمواطنين. وهناك خسارة اقتصادية أخري تتمثل في التأثير علي السياحة وفرص عودة السائح مرة أخري إلي بلادنا بعد خوضه هذه التجربة, وتزداد أهمية هذا الجانب عندما نعرف أن نحو نصف عدد الزيارات السياحية تتم في القاهرة الكبري وبواسطة النقل البري. وإذا كانت المشكلة علي هذا المستوي من الأهمية, فما هي الحلول؟ لانريد إعادة اختراع العجلة ولنتعلم من خبراتنا في السابق وكذلك من خبرات الدول التي مرت بمشاكل مماثلة وتعاملت معها مثل مدينة اسطنبول بتركيا. وهناك حلول مختلفة اتبعتها دول متقدمة مثل وضع ضوابط علي سير السيارات الخاصة بحيث تتوزع أيام الأسبوع بين السيارات التي تحمل أرقاما فردية وأخري زوجية, وتطوير وسائل النقل العام والجماعي, واستثمار أكبر في النقل النهري, وحفز السيارات علي استخدام الطريق الدائري خارج المدينة.. إلي غير ذلك من حلول هناك من هم أدري بها مني. وأيا كان الأمر, فليس من المقبول الاستمرار في ترك هذا الموضوع وكأنه أمر يتعلق بوزيري الداخلية( المرور) والنقل( المواصلات) وحسب, فالسياسات والقرارات المطلوبة تتصل بمختلف الوزارات الأخري. كذلك لم يعد من المقبول التعامل مع هذه المشكلة باعتبارها مسألة فنية تترك للفنيين والخبراء بل المطلوب إدراك اننا إزاء مشكلة تصل احيانا إلي درجة الأزمة ذات أبعاد اجتماعية وسياسية واقتصادية.. مشكلة تمس ملايين المصريين أكثر من مرة واحدة يوميا, وتؤثر علي نظرتهم لكفاءة الحكومة في إدارة الشئون العامة, ولها تكلفتها الاقتصادية والصحية الكبيرة. والمهم عند تناول المسئولين الموضوع ألا يكتفوا فقط بمعالجة مظاهر المشكلة واسبابها العاجلة فهذا أمر ضروري ومهم ولكنه ليس كافيا, بل لابد أيضا من دراسة السياسات التي أدت إلي ظهور المشكلة واستفحالها والتي تشمل سياسات الإسكان واماكن الاستثمار الصناعي والتجاري وتراخيص السيارات. الموضوع سياسي وعلاقة المواطن بالحكومة ودرجة رضائه عنها تتوقف علي حل المشاكل التي تعترض حياته يوميا وليس بالشعارات أو الخطب.