من أمثلة الأعمال الخطيرة ذات الشأن الرفيع، التي يحبها الله تعالى، من الأعمال الصالحة الخفية: الخلوة به سبحانه، والبكاء بين يديه، والتفكر في ملكوته، واللهج بذكره، والتضرع له، واستغفاره وقت السحر، وصلاة النافلة في جوف الليل، وكف الأذى عن الناس؛ فضلا عن صدقة السر، ونية الخير، قال الإمام أحمد بن حنبل: "إنوِ الخير، فإنك لا تزال بخير ما نويتَ الخير". عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَبِيءٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَفْعَلْ." (صححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"). معنى " خَبِيءٌ من عمل صالح": الأعمال الخفيّة التي لا يطّلع عليها أحد من الناس. وفي "المعجم"، تأتي كلمة "خَبْءٌ" أو "خَبِيءٌ" بمعنى الشىء المستور، أو المخفى، وأبرز مثال لها: صدقة السر، وهي أفضل من صدقة العلانية؛ لأنها "أسلم للقلب". قال تعالى: "إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم". (البقرة: 271). وفي حديث عبد الله بن مسعود، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "صدقة السر تطفيء غضب الرب".(صححه الألباني في "الصحيحة"). وفي رواية: "صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السَّوْءِ، وَالصَّدَقَةُ خَفِيًّا تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ زِيَادَةٌ فِي الْعُمُرِ، وَكُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَأَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا أَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الآخِرَةِ، وَأَهْلُ الْمُنْكَرِ فِي الدُّنْيَا أَهْلُ الْمُنْكَرِ فِي الآخِرَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَهْلُ الْمَعْرُوفِ". (رواه الطبراني وغيره، وصححه الألباني). وقد ورد في الحديث أن "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ الله في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ"، منهم شخصان يحرصان على إخفاء أعمالهما الصالحة: "رجلٌ تصدَّقَ بصدقةٍ، فأخفاها حتى لا تعلمَ شمالُهُ ما تُنْفِقْ يمينُهُ، ورجلٌ ذَكَرَ اللهَ خاليًا ففاضتْ عيناهُ".(صحيح البخاري). وتُعدُّ الخلوة بالله، واعتزال الناس، والكف عن أذاهم؛ من "عبادات السر" العظيمة أيضا. قال عمر: "خُذوا بحظِّكم من العزلة". وقال مسلم بن يسار: "ما تلذّذ المتلذّذون بمثل الخلوة بمناجاة الله عزَّ وجلَّ". وقال أبو الدرداء: "نِعْمَ صومعة الرجل بيته: يكفّ فيها بصره ولسانه، وإياكم والسوق فإنها تلهي، وتلغي". (المقصود بالصومعة بيت العبادة). وقال مسروق: "إن المرء لحقيق أن تكون له مجالس يخلو فيها، يذكر فيها ذنوبه، فيستغفر منها". في الخلوة يحلُو أيضا البكاء بين يدي الله. قال تعالى: "وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا". (الإسراء:109) عن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: "أتيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء". وعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ". (رواه الترمذي وحسنه، وصححه الألباني). وفي الخلوة بالله يحلو كذلك الأُنس به، والتفكر في ملكوته، مع الذكر، والدعاء. قال تعالى: "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ". (آل عمران:191) ومن "عبادات السر" في الخلوة، بجانب ما سبق: الاستغفار، خاصة وقت السحر. قال تعالى: "وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ".(آل عمران: 17). وقال عن أهل الجنة: "كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ*وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ". (الذاريات: 17، 18). كذلك يُعد الدعاء من أعظم عبادات السر. قال تعالى: "وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ".(غافر: 60). وقال سبحانه: "ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ".(الأعراف:55). وعن زكريا، عليه السلام، قال: "ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا".(مريم:23)،. وقد جاء في الحديث: "كم من أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ له.. لو أَقْسَمَ على اللهِ لَأَبَرَّه".(رواه الترمذي عن أنس، وقال: حسن صحيح). الشاهد أن الأعمال الصالحة الخفية، التي لا يعلمها إلا الله تعالى؛ كثيرة، وغير محصورة بعدد أو إطار محدد، وهي تقتضي منا عدم الزهد فيها.. حتى لو كانت كلمة طيبة، أو ابتسامة حانية، أو مشاعر حب لله تعالى، أو عطفا على البشر. [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد;