قبل أربعة وأربعين عاماً كان استهداف الوطن مشروعاً استعمارياً واضح المعالم، سافراً فى خصومته، محققاً لعداوته احتلالاً يدنس سيناء أرضنا المباركة، محتمياً بأحدث عتاد الحرب وعدتها، ومتستراً خلف سواتر ترابية تحول بين مصر وأرض الطور والرسالات، وتحجب عن الجند المرابطين وعموم المواطنين مشاهد الحق المسلوب، على أمل أن يُنسينا تتابع الحوادث حقاً أكيد التحقق، وثأراً لهزيمة اكتوى بنيرانها الشعب قبل الحكم. كان (بارليف) خطاً سميك العداوة، ظاهره مثل باطنه معجون بكراهية الإنسانية، ومُشَيَّد على سواعد بغضاء سداسية النجمة، يحلم صُنَّاعُه بأن يستحيل جداراً يعزل كيانهم الغاصب عن كل صاحب حق سلبوه إياه، وربما تَرْجَم صُنّاعُه حلمهم فى مرحلة لاحقة إلى (الجدار العازل). ظن العدو أن (بارليف) قد صار حصناً، وأن سوء الإدارة فى جولة من جولات المعركة، سيصبح السمت العام الذى يصبغ روح الشعب ليرضخ للهزيمة، تفريطاً فى الحق والأرض، وليتحول (بارليف) فى الوعى الجمعى المصرى من خط إلى سد منيع، يأوى خلف أسواره كل وحوش الأساطير التى لا تُقْهر، ولا مصير لمن ينجح فى اجتيازه إلا أن يحمل توصيف (مفقود). استهدف العدو أن يعمق الهزيمة فى الروح المصرية، عبر نقل آثارها من خانة فقد الأرض احتلالاً، إلى خانة التسليم للفقد امتثالاً، فقد باتت سيناء فى قبضة المحتل وأدخلها حصنه المنيع الذى هو خط (بارليف)، وكان الرهان أن يمتثل الشعب للاحتلال الذى بات واقعاً، وأن يسرى امتثاله خضوعاً لا يحرك ثأر الجند.واحتاج الشعب لسنوات ست ليصارع فيها أسباب الامتثال للفقد، وليعالج فيها عِلَلاً أنجبت جيشاً انهزم قبل أن يحارب، وليتجاوز خلالها خطاب إعلام التسطيح وسيادة فنون الهلوسة من عينة (السح الدح إمبو والعتبة قزاز والسلم نايلو فى نايلو)، وليزرع ثقافة الثقة فى الوطن القديم والشعب الحارس والجيش القادر، وليدعم ذلك باستخدام طاقات أهل الإبداع الذين يفكرون خارج الصندوق، فيكتشفون أن (بارليف) ليس حصناً، وإنما مجرد خط رسمه التراب، والذى عادة لا يصمد أمام تدفق المياه، هكذا كان السبيل للنصر، عندما قرر المقدم مهندس باقى زكى يوسف أن يدلى بدلوه أثناء اجتماع مع اللواء سعد زغلول عبد الكريم ليعرض فكرته لإزالة الخط (بارليف)، فقال فى ضوء خبرته أثناء بناء السد العالى (كل ما نحتاجه طلمبات تسحب المياه وتضخها على الساتر الترابى وتنزل الرملة بالمياه بوزنها، يعنى المرحلة الأولى من عملية التجريف فقط التى كنا نقوم بها فى السد العالي، ببساطة نستغل قوة اندفاع المياه اللى نضخها علشان تحرك وتشيل الرملة الى قاع النيل عندما يتم توجيه مضخات المياه على الساتر الترابى المياه تتحرك الرملة وتنزل بكل ثقلها فى قاع قناة السويس)، كانت الفكرة على بساطتها مدهشة للجميع فران الصمت على الحضور حتى قال (باقي) متسائلاً (هو أنا خرفت ولا إيه؟). عبر الجيش المصرى خط (بارليف)، وأثبت للعالم أنه مجرد خط، من الصعب أن يمحو حقاً مصرياً تتابعت على رسمه فى صفحات التاريخ الإنسانى أيادى المصرى الذى يتجاوز عمره سبعة آلاف عام، وعادت سيناء خالصة لمصر بغير خطوط تفصل أو حصون تأسر. نما خط بارليف قديماً فى غفلة من الشعب، حين فقد القدرة على تحصين وعيه، وتنوير أفكاره، وحين سرت جرعات التخدير الإعلامى فى عقول الناس، وحين تعطلت الطاقات عن عمد، إنها الحالة التى عبر عنها فنان الكاريكاتير الراحل أحمد طوغان فى رسالة سطرها عقب الهزيمة، وتوجه بها إلى الرئيس جمال عبدالناصر، ولخص فى نهايتها المطلوب لتجاوز الهزيمة قائلاً (أدرك أنكم رب الكيان وبقيادتكم وبالتفاف الناس حولكم سوف نسترد الأرض ونحصل على النصر, وكل ما علينا هو الالتزام بالجدية وتقدير الخطر وإشراك الناس فى الأمر). أربعة وأربعون عاماً، فصلت واقعنا عن خط التقسيم (بارليف)، وخلالها أعادت الآلة الاستعمارية العالمية إنتاج أدوات التفتيت، ليتطور شكل الاحتلال، مولداً أطواراً جديدة من خطوط (بارليف)، التى تستهدف إيهام المواطن بأن التسليم بالتبعية للهيمنة الخارجية قدره، والامتثال لمشاريع الفوضى الخلاقة فرض عين، ثم عليه أن يُصدق أسطورة تنظيم (داعش)، ذلك المتوحش الجبار الذى لم تستطع كل قوى العالم أن تهزمه على مدى خمس سنوات! إن المصرى الذى محا خط (بارليف)، اكتشف أعداؤه أن مواجهته بخطوط مباشرة عالية الكلفة، وغير مضمونة النتائج، فقرروا منذ دخولنا عصر الانفتاح ثم عصر الربيع العربي، أن يعيدوا إنتاج خطوط بارليف فى العمق المصري، خطوط تحول بين أدوار المجتمع المختلفة وحقيقة رسالتها، خطوط تستهدف الفرد مباشرة، تحاصر القدرات فلا تُفَعّل، وتشيع الإحباط فلا يُقاوَم، وتعمم الهزيمة فيستسلم الجميع لها، وتعمق الفجوات بين الإدارة وصاحب السيادة، إنها خطوط بارليف الجديدة التى أنتجتها مشاريع (الشرق الأوسط الجديد والفوضى الخلاقة والعالم الجديد)، وهى الخطوط التى تستوجب من الجميع لعب دور المهندس البطل (باقى زكى يوسف)، حتى نتمكن من العبور بإنسانيتنا و أوطاننا إلى الضفة الأخرى من عالم يستهدف المحتلون إعادة ترسيمه وفقاً لمصالحهم. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى;