ونأتى إلى خاتمة مجلدات موسوعة «الرد على خوارج العصر» وهو المجلد الخامس. تأليف مجموعة من العلماء والباحثين تحرير ومراجعة د. مجدى عاشور المستشار العلمى لفضيلة مفتى الديار المصرية- إشراف وتقديم ا.د. على جمعة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف. وكاتب هذا المجلد الدكتور عمر سيد عبدالعزيز والعنوان «الرد على الفكر المتشدد محور الفقه» الحضاري. وفى المقدمة نقرأ «وكما كان الإسلام هو سبب تقدم المسلمين ونهوضهم الحضارى وازدهارهم الثقافى وبرغم بقاء الإسلام كما هو على حاله حين فجر ينابيع التقدم فى الحياة الإسلامية.. كان سبب ظهور الأفكار الفاسدة والتوجهات المختلفة غياب روحه عن الحضارة الإسلامية بسبب انقطاع الاتصال بين معانى الاسلام الحقة وحضارة المسلمين فكان التشدد الذى هو أبعد ما يكون عن «روح الاسلام». ويعلن المؤلف أنه لا يسعى وراء عرض صنائع السوء والنفس السوداء لهذه الطائفة أو تلك أو الأيديولوجية أو تلك وإنما يريد ملاحقة الناس على قناعة راسخة بأن أفكارهم تمثل الخير المطلق والمعارضين لهم يمثلون الشر المطلق لأنهم يفسرون بطريقة جامدة تفتقر إلى الاستناد النقدى للأفكار التى انتقلت إليهم من خلال مبرزين عندهم ومن خلال قناعات تكونت فى القرن الأخير أصبحت فى النهاية سجنا لهم لا يمكنهم التحرر منها (ص9) فى حين أنه يتعين على المسلم أن يطور الأنشطة المستحدثة وأن يبعثها فى كل فترة من الزمن بعثا جديدا ليضمن استمرار جدة الفكر الإسلامى وحيويته. والمحظور ليس تفاوت اجتهادات اهل العلم بل فى تشرذم الناس وتباغضهم بسببها. (ص14) ثم يستند المؤلف فى رفضه الغلو والتشدد إلى الآية الكريمة «يا أهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق» (النساء/171) وإلى أحاديث للرسول «إياكم والغلو فى الدين، فإنما أهلك من كان من قبلكم الغلو فى الدين» وأيضا «أن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق» و«الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبة» والتشدد يأتى من تفسير متشدد للنصوص يتعارض مع مقاصد الشريعة.. وما ننكره على المتشدد أنه ينكر على من يخالفه ويتهمه (ص16) ومن مظاهر التشدد التزامه دائما وإلزام جمهور الناس به رغم أن الله لم يلزمهم به. ويفرضه على الناس بالقوة باتهامهم بالكفر والمروق وهذا الإرهاب الفكرى أشد تخويفا من الإرهاب الحسيس (ص19) وكأنه يقول لك «حقى أن أتكلم وواجبك أن تطيع» (ص20) والمتشدد يتمسك بالجهل وهو لا يشعر بالحاجة إلى تعلم أى شيء ممن لا يفكرون مثله لأنه يرى أن كل ما يقوله الآخر أو يفعله خطأ. والحضارة فى نظر المتشدد تهديد لأفكاره ومعتقداته فمجاراة الحضارة بأفرعها المختلفة مع المحافظة على مبادئ الشريعة يمثل تهديدا للفكر المتشدد ويفقد أصحابه خصوصيتهم. فمن أهم ملامحهم تصورهم أن مهمته إنقاذ مجتمع يتهاوى ويسقط فى الجاهلية ومن هنا فهم يستبعدون أى حل وسط ويكتسبون أبعادا من الهوس والتعصب واللجوء إلى العنف والتضحية بالحياة وحياة الآخرين (ص27). ويدفع التشدد أصحابه إلى الغرور فمع ضعف علمهم يتمسكون بمنهجهم فى المسائل الاعتقادية وكل من خالفهم كافر ومحتقر. وهم ينظرون من خلال منظار أسود للآخرين يخفى أى حسنة لهم ويضخم السيئات والأصل عندهم الاتهام للآخرين والأصل لاتهامهم بالإدانة، وتراهم يهتمون بظواهر الأعمال كالأزياء والألفاظ ولا يهتمون بصلاح القلوب ولا يفهمون من التدين إلا بعض أقوال يرددونها ببغائية بلهاء. ثم يكون سقوطهم فى هاوية التكفير (ص32) ويرى المؤلف أن الإسلام أباح للمسلمين بأجيالهم المختلفة أن يفعلوا ما صار ملزما وما التزم به المسلمون حتى اليوم والغد فلم يقم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بنقط المصحف الكريم، ولا قام بهذا العمل الجليل صحابته إنما وضعه أتباع التابعين، والتابعون لم يضعوا الشكل بل وضعه تابعو التابعين، وتابعو التابعين لم يضعوا له علامات الوقف بل وضعه تابعو تابعى التابعين، وغير ذلك مما يعرف اليوم بعلوم القرآن. كذلك لم يجمع المصحف على الصورة الموجودة اليوم إلا فى عهد عثمان ووزع هذا المصحف العثمانى على الآفاقس ونضيف إلى ذلك ترتيب الآيات فأول ما نزل من آيات القرآن «اقرأ» ولم تأت فى البداية، وهكذا جرى ترتيب المصحف وصار ترتيبه مقدسا وغير مسموح بإعادة ترتيبه. ويستند الدكتور عمر عبدالعزيز إلى قول للشيخ أنور شاه الكشميرى رحمة الله إذ يقول «واعلم أن الفضائل لا تنحصر فيما بنت فعله عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فإنه كان يخص لنفسه أمورا تكون أليق بشأنه، فمن ظن أن فيما ثبت عمله من رسول الله فقط فقد حاد عن طريق الصواب. وبنى أصلا فاسدا يترتب عليه فساد البناء. ويحيد بأصحابه فيدعون بأن كل ما لم يثبت عن الرسول فعله أو قوله بدعة وكل بدعة ضلاله» (ص41) والبدعة عند الفقهاء هو إحداث شيء من اختراعه وليس على مثال سابق. وتكون البدعة مذمومة ومردودة على صاحبها إذا تصادمت أو تعارضت مع نص شرعى (ص52) ويأتى الدكتور عمر بعد ذلك إلى «فقه الواقع» ويقول «دلت مصادر الشرع الحنيف وسير أعلام الأمة على ضرورة فقه (فهم) المسلم لواقع زمانه»، ويقول فقد أدت تطورات علوم الأجسام الطبيعية الحيوية إلى تكشف كثير من قوانين ما يسمى الواقع المادي.. فزاد الاهتمام باستقراء الواقع ووقائعه بالملاحظة والتحليل والتفسير فى محاولة لبناء مجتمعات عن الحياة الجديدة فى مجالاتها المتنوعة، فالثقافة الواقعية هى معرفة مكتسبة عن عيش العصر وأحواله ومعرفة تاريخه.. أما الرؤية الواقعية فهى تأتى بعد ذلك لتنظيم المعرفة، فالذى يجهل خصائص الزمان لا يكون فقيها فيه، وإن عاش الواقع بلا نظام فكرى لا يكون فقيها فيه (ص27) وبهذا يتجنب المسلم الصدام مع منجزات العلوم والحضارة والثقافة. ..وبهذا نختتم محاولتنا لاستطلاع بعض قليل مما جاء عبر 1250 صفحة من صفحات الموسوعة.. ولا يتبقى فى وسعنا إلا أن نتوجه بالشكر الجزيل مسبوقا بالاحترام والتقدير لمولانا الإمام الجليل د. على جمعة وصحبه الكرام الذين اهتدوا برأيه وفكره.. لما قدموه للإسلام والمسلمين من فكر قاوموا به ونقاوم نحن به خوارج العصر.. فلهم جميعا كل الاحترام والشكر. لمزيد من مقالات د. رفعت السعيد;