في الدستور, وهو القانون الأساسي أو العقد الاجتماعي الذي نتفق فيه علي أن نعيش معا جماعة واحدة لها تاريخها ولها شخصيتها, ونختار فيه النظام الذي يجمع شملنا ويقوي وحدتنا ويلبي مطالبنا, ونسمي فيه الحقوق التي نضمنها لكل فرد فينا, والواجبات التي يلتزم بها كل فرد إزاء الآخرين في هذا القانون أو في هذا التعاقد لايصح الاتفاق إلا علي ماهو جامع مشترك. نحن مصريون, فليس من حق الأجانب الذين يعيشون في مصر أن يكونوا شركاء لنا في هذا التعاقد. ونحن أحرار متساوون, فلا مجال للتمييز بين مصري ومصري آخر. ومع أننا مختلفون في الأصل والجنس والدين والطبقة الاجتماعية, فنحن في الدستور نتعاقد باعتبارنا أمة واحدة ولسنا جماعات مختلفة. نحن بالطبع رجال ونساء, وأغنياء وفقراء, ومسلمون ومسيحيون, ويهود وبهائيون, لكن الدستور لا شأن له بهذا كله ولا علاقة له إلا بما يجمعنا, فإذا أرادت طبقة من الطبقات الاجتماعية أن تثبت لنفسها في الدستور حقوقا خاصة قلنا لها: لا أيتها الطبقة الاجتماعية! ليس هذا من حقك. لأننا في الدستور لا نتفق إلا علي ما هو جامع مشترك بيننا. وبالمثل إذا أراد أصحاب ديانة من الديانات أن يثبتوا لأنفسهم في الدستور وضعا متميزا قلنا لهم أيضا: لا أيها الشيوخ الأفاضل أو القسس المحترمون! لأن الدستور لايعترف إلا بالحقوق المشتركة التي يتساوي فيها المواطنون جميعا. وهذا مبدأ متعارف عليه في الفكر السياسي منذ خرج البشر من طغيان الحكم المطلق الديني وغير الديني وعرفوا الديمقراطية والدستور. فالدستور هو العقد الأصلي الذي لابد أن نتفق فيه حتي يصبح من حقنا أن نختلف حول ما ينبني عليه وأن نقبل النتائج ولو كلفتنا في بعض الأحيان ما لا نحب. وإلا فلماذا أدفع الغرامة التي يحكم علي القاضي بدفعها إذا كان الأساس القانوني الذي بني عليه الحكم مفروضا بالقوة وغير متفق عليه؟!ونحن نتابع ما ينشر حول ما يسمي بالمادة الثانية التي تتحدث عن الشريعة الاسلامية في الدستور وتجعلها المصدر الرئيسي للتشريع. فلا نجد الا مزايدات لابتزاز عواطف البسطاء, وتجاهلا تاما للمعارضين وأصحاب الرأي وتحريضا عليهم. وسنبدأ فننبه السيدات والسادة القراء الأعزاء إلي أن هذه المادة ليست وحيا سماويا, وإنما هي بدعة دخيلة علينا لم تعرفها دساتيرنا إلا في الدستور الملفق الذي ورثناه من أيام مبارك والسادات. الدستور المصري الأول الذي صدر في أعقاب الثورة العرابية سنة 1882خلا خلوا تاما من أي مادة تشير إلي الدين. وهذا أيضا ما نجده في دستور الثورة الوطنية الكبري, ثورة 1919 التي رفعت شعارها الخالد الدين لله والوطن للجميع. ومن دستور 1923 ننتقل إلي دستور 1930 ثم دستور 1954 الذي التزم هو أيضا عدم الخلط بين السياسة والدين, وأشار فقط إلي أن الأسرة قوامها الدين والأخلاق والوطنية. ثم ننتقل إلي الدساتير المصرية التي صدرت عام 1956 وعام 1958 وعام 1964 تباعا فلا نجد أي كلام عن دين الدولة, لأن الدولة لا تتحيز لدين بالذات وإنما تضمن فقط حرية الاعتقاد للجميع. ولا نجد تحديدا لمصادر التشريع, لأن مصادر التشريع متعددة عندنا وعند غيرنا, ولأننا أعلم بشئون دنيانا. ونحن ننظر أيضا في دساتير الأمم الأخري القديمة والحديثة الشرقية والغربية, المسيحية والبوذية والهندوكية, فلا نجد أي خلط علي أي نحو بين السياسة والدين. المادة العشرون في دستور اليابان تقول بالنص تكفل حرية الديانة للجميع. ولايجوز أن تحصل أي منظمة دينية علي أي امتيازات من الدولة, ولا أن تمارس أي سلطة سياسية, وتمتنع الدولة وأجهزتها عن التعليم الديني. هكذا نعرف سر تقدم اليابان, وسر تخلفنا! والذي نجده في دستور اليابان نجده في دستور الهند, ودستور جنوب إفريقيا, ودستور استراليا, وإيطاليا, ودستور تركيا الذي تحرم مادته الثانية علي عكس المادة الثانية عندنا! إسناد نظام الدولة الأساسي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والقانوني إلي ركائز دينية! لكننا نجد هذا الخلط غير المسئول عندنا في الدستور الذي صدر عام 1971 في بداية حكم السادات وجاء في مادته الثانية الاسلام دين الدولة.. و مبادئ الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. ثم جاء في مادته التاسعة عشرة التربية الدينية مادة أساسية في مناهج التعليم. كيف حدث هذا الخلط؟ حدث هذا الخلط حين قرر السادات ومن كانوا حوله من المتاجرين بالسلطة والمتاجرين بالدين والقانون أن يحولوا سيدهم من حاكم إلي آله! فلابد من تعديل المادة الدستورية التي تنص علي جواز إعادة انتخاب الرئيس مدة أخري لتصبح مددا غير محددة. ولكي يضمنوا سكوت المصريين علي هذا العبث قرروا أن يرشوا الجماعات الدينية وفي مقدمتها الاخوان المسلمون, فيضيفوا للدستور هذه المادة الثانية التي أصبحت فيها الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. وقد رحب الاخوان وغيرهم بهذه الرشوة السخية التي أطلقت أيديهم في التشريع والتعليم وجعلتهم شركاء أساسيين في نظام السادات وخليفته مبارك, ثم جعلتهم الورثة الشرعيين لهذا النظام المستبد الفاسد, والفضل للمادة الثانية التي يعتقد الإخوان والسلفيون أن الترجمة العملية لها هي أن ينفردوا بالسلطة! يتحدثون عن شرع الله, والحقيقة أنهم لايتحدثون إلا عن فهمهم الرجعي لشرع الله, فضلا عن أنهم يجعلون شرع الله نقيضا لشرع خلق الله. ولو فكروا لأدركوا أن الله خالق كل شيء وصانع كل شيء. فالحياة التي نعيشها, والتجارب التي نخوضها, والتحديات التي نواجهها, والحلول التي نصل إليها كلها مما خلقه الله وشرعه. ونحن لا نخرج من حكم الله إلا إلي حكم الله, لأننا نعرف أن لكل مجال حدوده ولكل زمان قوانينه. نحن لا نخلط بين الدين والسياسة, وهم يخلطون بينهما, ويدخلون في الدستور ما لا يجوز أن يدخل فيه. حين يقولون الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع يجمعون بين طرفين يتناقضان ولا يلتقيان. فالشريعة تخص المسلمين وحدهم, أما التشريع فهو حق أصلي لكل المصريين, لأن الأمة هي مصدر كل السلطات. كيف يمكن للمصري غير المسلم أن يقبل هذه المادة؟ بل كيف يقبلها أي مصري مستنير مسلما كان أو غير مسلم؟ هنا يتمسحون في الديمقراطية التي تقضي بالانصياع لحكم الأغلبية. والمسلمون أغلبية, فعلي الآخرين أن ينصاعوا لحكمهم. وهذا خلط, فالديمقراطية لا شأن لها بالأغلبية الدينية, وهي تحتكم للأغلبية السياسية دون غيرها. لأننا في السياسة شركاء, وحقوقنا في السياسة متساوية, وإذا كنت اليوم ضمن الأقلية السياسية فأنا ضمن الأغلبية غدا. والأمر ليس كذلك في الدين الذي نحتكم فيه لعواطفنا ومعتقداتنا الموروثة الثابتة, ولا نستطيع أن نناقشه أو ننتقل فيه من موقف لموقف آخر كما نفعل في السياسة. فإذا تحولت الأغلبية الدينية إلي سلطة حاكمة فسوف تكون سلطة قهر وإرغام لايستطيع الذين يختلفون معها سواء ممن ينتمون لدينها أو لدين آخر إلا أن يمتثلوا لها ويخضعوا لارادتها, وهذا هو الطغيان الذي سوف يعيدنا الي ظلمات العصور الوسطي! المزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي