الحق نورٌ، والكلمة حاملة للحق والنور عبر التاريخ، وحينما يغيب الحق ينتشر الظلام، وتفقد الكلمات معانيها حين تمتلئ الكتب بأكاذيب التاريخ. فالفساد كائن فى النفوس، وبين سطور التاريخ المزورة التى تغتال الحق على صفحاتها حتى لا يستنير العالم ويعرف الحقيقة. ففى ليل النفوس المريضة تحاك المؤامرات، ثم يأتى من يغطى تلك المؤامرات ويجملها على صفحات التاريخ. فالحقيقة لا يمكن أن تسرى فى عروق الفاسدين والكاذبين. وما سنتناوله على صفحة تاريخنا القبطى هذا اليوم هو أحد الخلافات والأكاذيب التاريخية عند الغرب حين يتناولون سيرة البابا ديسقورس البطل القبطى الذى رفض أن يغير إيمان آبائه ورفض الأقباط من بعده أن يكونوا تابعين بخنوعٍ لكرسى روما. والبابا ديسقورس هو الذى جلس على الكرسى المرقسى عام 444م بعد انتقال البابا كيرلس الكبير الذى حمى العالم من أفكار نسطور وتحمل الكثير حتى صار هو والبابا أثناسيوس من قبله المرجعين الوحيدين لمن يريد أن يفهم اللاهوت المسيحى حتى الآن. وفى هذا الوقت كان يجلس على كرسى روما البطريرك لاون الذى كان يشعر بغيرة شديدة من البابا القبطى لأن الكنيسة القبطية كانت قد وصلت إلى مجدها وسلطانها الروحى والفكرى واللاهوتي، مما جعلها هى المرجع لكل ما يخص المسيحية، حتى أن الإمبراطور ثيؤدوسيوس الصغير أصدر مرسوماً عام 448م يحرم فيه جميع الكتابات التى لا تتفق مع كتابات البابا أثناسيوس وكيرلس باباوات الكنيسة القبطية. ولم يكن لاون وحده الذى يغار من سلطان الكنيسة القبطية بل كانت بوليكاريا أخت الإمبراطور وبعض رجال القصر يشعرون بأن الإمبراطور صار لا يسمع لأحد سوى رجال كنيستنا القبطية حتى فى أموره الشخصية. فلم يكن للإمبراطور وريث للعرش وكانت أخواته كلهن راهبات حتى إنهن كن يعشن فى جناح يسمى الملكات العذارى. وكانت بوليكاريا الأخت الكبرى التى حكمت من قبل حينما كان ثيؤدوسيوس صغيراً متسلطة على كل شيء خاصة أن زوجة الإمبراطور كانت امرأة تقية حتى إنها بعد موت الإمبراطور اعتزلت فى أورشليم وقضت بقية حياتها متعبدة هناك. فأشارت بوليكاريا على أخيه أن يتزوج مرة أخرى حتى ينجب وريثاً للعرش ولما كان هذا ضد العقيدة المسيحية فلم يقبل، ولكن تحت إلحاحها قال لها إنه سيستشير آباء الكنيسة القبطية فإذا وافقوا سيفعل. وأرسل مندوباً وجاء إلى آباء مصر الذين رفضوا هذا وقالوا له أنها إرادة الله أنك لا تنجب وريثاً للعرش فلم يفعل. وشعرت بوليكاريا بالتحدى الشخصى لها من الكنيسة القبطية. وفى ذلك الحين ظهرت بدعة أخرى نادى بها رئيس دير بالقسطنطينية يدعى أوطاخي، وكان فى البداية ضد نسطور، ولكنه انحرف عن الإيمان أيضاً مما جعل الأساقفة الذين كانوا يناصرون نسطور ولم يستطيعوا المجاهرة قد وجدوا سبيلاً فى نشر أفكارهم بطريقة الهجوم على هذا المبتدع. ومنهم بطريرك القسطنطينية الذى قام بحرمان أوطاخي. فأرسل أوطاخى رسائل لبابا روما لكى يتدخل فى الأمر، وفى البداية تعاطف معه وأرسل للإمبراطور رسائل للتدخل فى الأمر ولكنه رد عليه بأنه أعهد للبابا ديسقورس بحل المشكلات الإيمانية. وبالفعل أصدر الإمبراطور أمراً بعقد مجمع أفسس الثانى برئاسة بابا الأقباط للنظر فى تلك الأمور. وتواصل بطريرك القسطنطينية النسطورى مع لاون لأنه علم أن البابا القبطى لن يتهاون فى حرمه حين يكشف عن إيمانه المخالف. ولم يحضر لاون المجمع ولكنه أرسل مندوبين ومعهم منشور صاغ فيه لاون إيمانا توافقيا يخفى فى داخله بعض الأفكار النسطورية والذى كان سبباً فى انشقاق الكنيسة فيما بعد. واجتمع المجمع وحضره مائة وثلاثون أسقفاً ولم تقرأ رسالة لاون، ولكن فى هذا المجمع تراجع أوطاخى عن أفكاره فأمر المجمع برجوعه للكنيسة، ولم يتراجع بطريرك القسطنطينية عن أفكاره فتم حرمانه. واشتعلت الأجواء فى كل العالم بعد هذه القرارات، وفى هذه الأثناء مات الإمبراطور ثيؤدوسيوس الصغير، ولما كان العرش سيذهب إلى آخرين لأنه لم ينجب وريثاً فقد خلعت بوليكاريا أخته ثوب الرهبنة وتزوجت ماركيان رئيس الجيوش لتجلس هى على العرش مع زوجها. ومن هنا بدأت صراعها مع كنيستنا القبطية خاصة وقد تحالفت مع بطريرك روما فأصدر الإمبراطور أمراً بعقد مجمع أخر فى خلقيدونية وهى قرية صغيرة بجوار القسطنطينية. وفى هذا المجمع تحالفوا ضد البابا ديسقورس وحاولوا أن يلصقوا به تهمة أنه ناصر بدعة أوطاخى لأنه أرجعه إلى الكنيسة. فوقف البابا وقال إنه كان قرار مجمع ووقع عليه مائة وثلاثون أسقفاً وهم من الحاضرين الآن فتبرأ هؤلاء من إمضائهم خوفاً من الإمبراطورة التى كانت حاضرة هى وزوجها. ثم أعلنوا انضمام الأساقفة النساطرة المحرومين وبدأ المجمع وهو فى حالة غليان حتى اضطروا إلى إنهاء الجلسة واستئناف المجمع بعد خمسة أيام. ولكن بعد ثلاثة أيام اجتمعوا بدون البابا ديسقورس الذى وضعوا على باب مسكنه جنوداً كى لا يحضر، وحكموا على البابا ديسقورس بالنفى إلى جزيرة غاغرا، ووضعوا منشور لاون أساسا للإيمان. وأحضرت الإمبراطورة البابا وقالت له وقع على هذا المنشور فرفض فضربته وأمرت الجنود بتعذيبه فكسروا أسنانه فجمعها وأرسلها إلى الكنيسة مع أحد الأساقفة مع رسالة قال فيها: «هذه ثمرة الإيمان فحافظوا عليها». أما هو فذهب معهم إلى المنفى. فقد وافق على المنفى من أن يفرط فى الإيمان أو أن يخضع الكنيسة القبطية لأهواء سياسية. وهذه حقيقة ما حدث، إما المؤرخون فى الغرب فلم يجدوا سبيلاً لدفاعهم عن روما إلا بتشويه البابا القبطي. لكن سيظل بابا الكنيسة القبطية هو رمز الإيمان الذى لا يهتز أو يتأثر بالأفكار المنحرفة، وهو وريث كرسى يحمل فى طياته حضارة وفكر مدرسة الإسكندرية، وعمق روحانية البرية وآباء الرهبنة، وهو حامل شعلة الإيمان والروح التى ظلت وستظل مشتعلة رغم العواصف وضيقات الأزمنة والأشخاص. كاهن كنيسة المغارة الشهيرة بأبى سرجة الأثرية