من يقلب أوراق التاريخ يرى بوضوح جلى أن مصر كانت ولا تزال هى العنصر الحاضر دائماً فى كل أحداث تحولات التاريخ. وبالرغم من محاولات إضعاف هذا الدور فتخبو الشعلة أياماً ولكنها لا تنطفئ فيعود العالم يبحث عن مصر ليستلهم من حضارتها وروحها قوة الحياة. وصفحة التاريخ اليوم هى صفحة سلام وبناء فبعد اضطهاد فالنس مصر والكنيسة القبطية تحت تأثير الآريوسيين جلس على العرش الرومانى الإمبراطور ثيؤدوسيوس عام 378م وهو آخر أباطرة روما الموحدة فبعد فترة حكمه انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى روما وبيزنطة. وكان ثيؤدوسيوس مسيحيا قويم الإيمان يدرك خطورة استمرار الآريوسيين فى نشر أفكارهم، فما أن جلس على العرش حتى أرسل إلى البابا بطرس الثانى بابا مصر رسالة يطلب منه أن يأتى إلى القسطنطينية ليواجه الفكر الآريوسى الذى انتشر فى الكنائس هناك. وقد استجاب البابا وأرسل وفداً من آباء مدرسة الإسكندرية اللاهوتية وأوصى بأن يرأس كنيسة القسطنطينية القديس إغريغوريوس الذى كان قد تعلم فى مصر. ففى هذه الأوقات كانت مصر هى الجامعة الكبرى للفكر المسيحي، وكانت أديرة مصر هى النموذج العملى لحياة القداسة حتى إن أخو الإمبراطور ذاته جاء إلى مصر وصار أحد قديسيها العظام وهو الأنبا كاراس. فقد كانت زوجة الإمبراطور مريضة واحتار أطباء القصر فيها وأشاروا على الإمبراطور أن يرسلها إلى القديسين فى مصر ليصلوا لأجلها فتشفي. فأرسل الإمبراطور زوجته برفقة أخيه كاراس فى حراسة كتيبة من الجنود وذهبت إلى أديرة مصر، وبالفعل قد شفيت بصلاتهم، الأمر الذى جعل الأنبا كاراس يفكر فى اعتزال حياة القصور وأن يكمل حياته زاهداً وسط الآباء الذين رآهم بعينيه وقد تأثر بحياتهم. فأرسل رسالة إلى الإمبراطور أخيه يطلعه أنه لن يرجع مرة أخرى ولكنه سيعيش فى مغارة فى الجبل وسط قديسى مصر. وبعد سبعة وخمسين عاماً فى المغارة وجده أحد الآباء المؤرخين الذين كتبوا لنا سير قديسين المغاير وقد أطلعه أنبا كاراس على حياته وأخبره بأنه سينتقل من هذا العالم وأن الله قد أرسله ليكفن جسده. وقد كان الإمبراطور ذاته يحمل عمقاً روحياً بالرغم من شراسة إدارة الإمبراطورية وتاريخها الدموي. وقد تورط فى سفك دم الأبرياء حين عصى أهل تسالونيكى الحاكم الرومانى وقتلوه فأمر هو بقتلهم جميعهم البار مع الأثيم سبعة آلاف نسمة. فانتشر الخبر وانزعجت الكنيسة من هذا التصرف الدموى وأعلنت الكنيسة حرمان الإمبراطور من دخولها. وكان يمكن للإمبراطور أن يتصرف مع أساقفة الكنيسة بعنف وأن يتكلم بمنطق السلطة، وحاول أن يدخل الكنيسة فوقف أمامه الأسقف أمبروسيوس وقال له: «كيف تقف أمام الله بذنبك الجسيم أتستطيع أن تطأ مكانه المقدس ويداك ملطخة بدم الأبرياء». فتأثر الإمبراطور وانسحب من أمام الكنيسة وظل محترماً حرمانه ثمانية أشهر إلى أن جاء عيد الميلاد فقال فى نفسه: «أيكون هيكل الله مفتوحاً لبسطاء شعبى ومغلقاً فى وجهي» فذهب إلى مكان بقرب الكنيسة واستدعى الأسقف وترجاه أن يسمح له بالدخول فقال له الأسقف: «أن خطيئتك العلنية تقتضى توبة علنية». وأرجو من القارئ أن يسترجع صورة ومهابة أباطرة روما السابقين بل والملوك الحاليين وردود أفعالهم إذ قيل لهم هذا، فما هو تصرفه فى مواجهة هذا الحرمان؟ حتى الإمبراطور قسطنطين تعامل مع البابا أثناسيوس بحدة ونفاه. وأى ملك أو حاكم كان سيشعر بالمهانة وكان سيشيط غضباً من حرمانه من الدخول، بل إن أى شخص عادى كان سيشيط غضباً من هذا الحرمان وكان سيقول: «أنا آتى إلى هيكل الله لأعبده ولا أريد أن يتدخل أحد بينى وبين الله». ولكن هذا الإمبراطور قد تصرف باتضاع كبير وقال للأب الأسقف: «ماذا تريدنى أن أفعل حتى أكفر عن خطيئتي». فقال له: «حتى لا يعدم برىء مرة أخرى يجب أن تصدر قانوناً أن يؤجل حكم الإعدام مدة ثلاثين يوماً بعد الحكم به عله يستطيع أن يثبت براءته فى هذه المدة». فقال الإمبراطور: «وماذا أصنع فى خطيئتي؟». فقال له: «قدم توبة فى الكنيسة أمام كل الشعب». فدخل الإمبراطور العظيم وجثا على ركبتيه وهو يبكى بالدموع معترفاً بخطيئته. وكان هذا الموقف له الأثر البالغ فى كل الإمبراطورية وازداد الإمبراطور رفعة فى عيون الشعب بعد أن أصبح مثالاً للتوبة والخضوع أمام الله. وانتقل البابا بطرس من الأرض وانتخب البابا تيموثاوس بابا الأقباط وقد كان أحد تلاميذ البابا أثناسيوس ورئيس الوفد الذى أرسله البابا بطرس لتثبيت الإيمان بالقسطنطينية. وفى ذلك الوقت ظهرت بعض الأفكار الغريبة عن الإيمان المسيحى الحقيقي. وهى بدعة مقدونيوس الذى كان أسقف أريوسى فى الأصل وكان يعلم بأن روح الله القدوس مخلوق. كما ظهرت أيضاً مجموعة اسمهم المريمين علموا بأن العذراء مريم تحمل صفة إلهية. وقد رفضت الكنيسة هذا التعليم وأصدر الإمبراطور ثيؤدوسيوس عام 381م بعقد مجمع بالقسطنطينية لمناقشة هذه الأفكار الغريبة عن الإيمان المسيحى وكان برئاسة البابا تيموثاوس بابا الأقباط الذى ناقش هؤلاء المبتدعين وأظهر لهم عدم صحة كلامهم، ولما لم يرتجعوا عن أفكارهم أصدر المجمع قراراً بحرمانهم وحرمان كل من يؤمن بهذه الأفكار. كما تقدم أساقفة الغرب بطلب ترتيب أولوية الكراسى المسيحية على أساس سياسي، فاعتبروا كنيسة روما هى الأولي، وكنيسة القسطنطينية هى الثانية، والكنيسة القبطية هى الثالثة على اعتبار أن روما والقسطنطينية هما عاصمتا الإمبراطورية. وقد كان الإمبراطور قد أصدر قراراً مع مجلس الشيوخ باعتبار المسيحية هى ديانة الإمبراطورية فكانت حجة أولئك الأساقفة بأنه طالما الإمبراطورية صارت مسيحية فتكون روما والقسطنطينية فى ترتيبهم أعلى الكنائس. وقد كانت هذه روح جديدة على الكنيسة إذ أن الكنيسة القبطية كانت تقود العالم المسيحى فكراً وروحاً وليست رئاسة، ولم يدرك هؤلاء الأساقفة أن هذه الروح ستؤدى إلى الانشقاق وهذا ما حدث بعد سنوات قليلة. كاهن كنيسة المغارة الشهيرة بأبى سرجة الأثرية لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس