كانت مصر عبر تاريخها منطقة مركزية، ينزل في رحابها أبناء الشعوب المختلفة، من العمق الإفريقي، بسبب طريق الحج، ومن الملايو والصين والهند والعراق والشام واليمن بسبب الأزهر، كما عبرت علي أرضها السيدة مريم عليها السلام تحمل سيدنا عيسي عليه السلام، كما جاء الصحابة والتابعون وأهل البيت النبوي الكريم. فجاء إليها الوافدون من المغرب العربي، أو القرن الإفريقي، أو السودان، أو أقاليم التكرور الواسعة، التي تغطي غرب السودان وتشاد والنيجر ومالي إلي نيجيريا والسنغال، إلي غير ذلك من المناطق الشاسعة في العمق الإفريقي، حيث ظل أبناء تلك الشعوب يعبرون علي أرض مصر من خلال طريق الحج القديم، فيما قبل عصر الطيران قبل نحو قرن من الزمان، حيث تعبر القوافل علي ذلك المسار، حتي تنزل في مدينة قوص، بمحافظة قنا، والتي كانت قاعدة الصعيد وعاصمته، ثم تعبر تلك الوفود والقبائل من خلال الصحراء الشرقية إلي البحر الأحمر ومنه إلي الحرمين الشريفين، أو أن يصعدوا مع النيل إلي القاهرة، ليرافقوا رحلة المحمل المصري الذي يحمل كسوة الكعبة المشرفة إلي مكةالمكرمة، هدية من مصر إلي الحرم الشريف، فكان الإنسان المصري يشهد بعينيه الغرباء والوافدين، الذين يعيشون أياما أو شهورا أو سنوات في رحاب مصر، يتقلبون في خيرها، ويبذل لهم الإنسان المصري كرمه وعطاءه، وسعة خاطره، ويفتح لهم قلبه، ويقوم بواجب ضيافتهم، ويطلع من خلالهم علي الدنيا، ويحفر في قلوبهم منزلة سامية لمصر وشعبها المضياف الكريم. قال المؤرخ الكبير حسين مؤنس: (ويكفي أن نذكر في هذا المقام ركب الحجاج المعروف بالركب المغربي، الذي كان يخرج من فاس ومراكش للحج، ويلم بمصر شهورا طوالا في الغدو والرواح، فقد كانت القافلة تصل في بعض الأحيان إلي الخمسين ألف إنسان، وتصور أنت ما يمكن أن يكون من الأثر لخمسين ألف إنسان ينتقلون كل عام من المغرب إلي مصر فالحجاز، ومن الحجاز إلي مصر فمراكش). وألتقط هنا هذا الطرف من الخيط الدقيق الذي لمسه جمال حمدان بعمق، وهو أن هذه الروافد كانت تصب أثرها بهدوء في مصر، أي أنها تصب آثارا اجتماعية واقتصادية ونفسية وعلمية كبيرة ومتدفقة في وجدان الإنسان المصري ووعيه بذاته، وكل أثر من تلك الآثار يحتاج رصدا موسعا، حتي تري ما قامت به تلك الأمور من ترسيخ وبناء وحفاظ علي اعتزاز الإنسان المصري بقيمته، وإدراكه لقيمة وطنه، وتفرده بمزايا رفيعة، تجعل أبناء الشعوب والثقافات المحيطة ترنو وتتطلع إلي هذه البقعة الطاهرة من أرض الكنانة بحب وإجلال وإكبار، كما أن المصري كان يجتهد في تشغيل خيرات هذا الوطن العظيم ليكرم به ضيوفه الوافدين من أشقائه العابرين بأرضه. وكان لهذا أثر كبير في شخصية الإنسان المصري، حيث يخرج من ضيق نفسه إلي آفاق واسعة، ويدرك أن بلده بلد خير ونماء وكرم وريادة، فإذا انفض الضيوف الغرباء بقي هو يتعامل بنفس الأريحية والسعة والكرم مع الجميع في وطنه. ومن الآثار الجليلة للحج أيضا أنه كان يجلب لمصر أفاضل الناس، والأتقياء الأنقياء منهم، الذين يدركون منذ خروجهم من بيوتهم أنهم في رحلة روحية سامية، فأوقاتهم كلها عامرة بالطاعة والخُلُق الكريم، ثم يعبرون علي مصر في رجوعهم وقد تزودوا من التقوي وشهود المشاهد المقدسة الجليلة، فكان الحج جاذبا للأفاضل من مختلف الشعوب، وما رأي منهم المصريون إلا كل خلق حسن، ومعاملة فاضلة، ولم يصدر عنهم في مصر إلي هدم أو عدوان علي الأخلاق والقيم، فلم ينقلوا إلي مصر إلا الأرفع والأرقي من العادات والأخلاق، مما يجعل المصريين يعيشون أجواء الحج السامية في كل موسم من مواسم الحج. وطريق الحج القديم الذي يخترق العمق الإفريقي ويعبر علي دول كثيرة، ويصب في مصر، مرورا بها، بغرض النزول فيها، أو اجتيازها إلي الحرمين، كان أيضا طريقا من طرق التجارة العالمية، كطريق الحرير الذي كان يعبر من عمق آسيا إلي أوروبا، مرورا بالدول والممالك الإسلامية، فتنشط به حركة التجارة وخدماتها في مائة وست وثمانين مدينة كبري يعبر عليها ذلك الطريق. وكان دخول السيد المسيح إلي أرض مصر بركة كبيرة لأرضها وشعبها، حيث سارت العائلة المقدسة من بيت لحم إلي غزة، حتي محمية الزرانيق غرب العريش ب 37 كم، ودخلت مصر عن طريق الناحية الشمالية من جهة الفرما، الواقعة بين مدينتي العريش وبورسعيد، مرورا بمدينة تل بسطا (بسطة) بالقرب من مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، فمدينة بلبيس، ثم سمنود، ومن وادي النطرون ارتحلت العائلة المقدسة جنوباً ناحية مدينة القاهرة، وعبرت نهر النيل إلي الناحية الشرقية متجهة ناحية المطرية وعين شمس ومصر القديمة، إلي آخر الرحلة الكريمة، التي أسهمت في ارتباط الوجدان المسلم والمسيحي علي السواء بأرض مصر لأنها كانت الوعاء الحاضن لرسالات السماء. وقد أضيف عامل آخر، ساعد في تثبيت تلك الخاصية وتلك القيم والمعاني في شخصية الإنسان المصري، ألا وهو الأزهر الشريف، حيث كان يأوي إليه الألوف من طلاب العلم، من المبعوثين والوافدين والمجاورين، من الهنود، وبلاد الملايو، والشوام، والأكراد، والأتراك، والعراقيين، واليمنيين، والأفارقة، وغيرهم، فإذا بالإنسان المصري قد اعتاد أن يري علي أرض وطنه أجناسا وأعراقا كثيرة، جاءت لوطنه العظيم، تستمد منه العلم والكرم والعطاء، مما يترك في نفس الإنسان المصري ثقةً في وطنه، إدراكًا لقيمته، ومما يساعده علي تشغيل مرافق هذا الوطن، واستخراج خيراته، ليقتدر بها علي إكرام ضيوفه، والقيام بحقهم، مما يجعل الإنسان المصري يجد العيش الكريم لنفسه، ويجد ما يفيض به علي الوافدين إليه، وكل ذلك يخرج بالإنسان المصري من الكآبة والإحباط واليأس والهوان والضعف والحزن. لمزيد من مقالات د. أسامة الأزهرى