نزلت في رحاب مدينة مراكش العريقة، لساعات معدودات لا تكمل اليومين، صحبة وفد من العلماء الكرام، وفي رحاب سفير مصر الكريم في المملكة المغربية، الذي شملنا بعناية كبيرة تستحق كل امتنان وعرفان، وكان ذلك لحضور مؤتمر حقوق الأقليات غير المسلمة في الديار الإسلامية، برعاية كريمة من جلالة الملك محمد السادس، وترتيب مشترك بين وزارة الأوقاف المغربية، ومنتدي تعزيز السلم ومقره في أبو ظبي، فامتلأ وجداني بتاريخ عريق ممتد، لابد من أن ننسج علي ضوئه حاضرنا ومستقبلنا، حيث خطا هنا علي هذه الأرض علماء ومفكرون وأدباء وشعراء، من المغاربة والوافدين، مما جعل مراكش مركزا علميا تاريخيا شديد الأهمية، وكان صديقنا المؤرخ الكبير الأستاذ أحمد متفكر، والذي هو ذاكرة مدينة مراكش الحمراء العريقة، وقد ألف نحو الخمسين كتابا حول تاريخ مراكش، ومساجدها، وعلمائها، وشعرائها، وقضاتها، كان قد صحبنا في جولة مسائية عذبة في بعض نواحي مراكش ومعالمها، وأمتعنا بحديثه المتدفق وذاكرته الموسوعية، حول تاريخ كل بقعة تراها العين أو تخطو عليها القدم في تلك المدينة، وأهداني عددا من مؤلفاته المهمة، والتي كان الحصول عليها من أهم البواعث التي حركتني لهذه الرحلة، وهناك تحركت في مخيلتي وخاطري ذكريات مراكشية عميقة، حيث سبقنا إلي تلك المدينة مصريون كثيرون، منهم الأستاذة الكبيرة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطيء، ومنهم الأديب الأستاذ عزيز أباظة، وغيرهم كثير، وتداعي إلي خاطري أيضا ذلك السياق الممتد من العلاقات الوثيقة التي تربط مصر بالمملكة المغربية الشقيقة، والتي نبعت من حراك تاريخي عميق وراسخ في أعماق الوجدان المصري والمغربي معا، مع ارتباط متشعب ومتجذر، وحافل بمنعطفات تاريخية عجيبة، جعلت هذين الجناحين العظيمين (مصر والمغرب) يدركان معا أن الأخوة غير قابلة للانفصام، وكان من أهم العوامل التي أسست هذه العلاقة ورسختها وزادتها عمقا أمران: أولهما رحلات الحج التي حملت لنا الأعيان والعلماء والأبرار والأتقياء من سائر الحواضر والمدن المغربية خصوصا، والمغرب العربي الواسع عموما، يحدوهم الشوق الجارف إلي الحرمين الشريفين، ويحملهم الأمل العميق والحنين المرهف إلي أرض مصر الطاهرة، وأزهرها الشريف، حتي يأتي شيخ الجماعة والعلماء بعاصمة العلم في المغرب مدينة فاس، عابرا علي الأزهر الشريف، فيغتبط العلماء به، ويطلبون منه الجلوس في الأزهر لتدريس موطأ الإمام مالك، فيستجيب لرغبتهم، وهكذا كان الحجاج المغاربة يرجعون من موسم الحج كل عام وف ذاكرتهم أطيب الذكريات لأرض الكنانة، وحب أهلها للأشقاء المغاربة، حتي قال المؤرخ الكبير حسين مؤنس في كتابه (مصر ورسالتها): (ويكفي أن نذكر في هذا المقام ركب الحجاج المعروف بالركب المغربي، الذي كان يخرج من فاسومراكش للحج، ويلم بمصر شهورا طوالا في الغدو والرواح، فقد كانت القافلة تصل في بعض الأحيان إلي الخمسين ألف إنسان، وتصور أنت ما يمكن أن يكون من الأثر لخمسين ألف إنسان ينتقلون كل عام من المغرب إلي مصر فالحجاز، ومن الحجاز إلي مصر فمراكش)، وقد أخرج أستاذنا السفير عبد الهادي التازي رحمه الله كتابا مهما اسمه (مكة في مائة رحلة مغربية ورحلة)، طبع في مجلدين كبيرين، ، والذي يطالع ما يمكنه من تلك الرحلات يجد كلام العلماء والرحالة والحجاج المغاربة عن مصر، كله تعلق وشوق وإكبار وتقدير، والأمر الثاني هو التعلق الكبير بالأزهر الشريف، ورحيل وفود كثيرة في طبقات متعاقبة من الأشقاء المغاربة للإقامة في رحاب مصر لتلقي العلم بالأزهر الشريف، مما أوجد انصهارا وجدانيا بين المصريين والمغاربة، وقد عرف الأزهريون لعلماء القرويين قدرهم، كما عرف القرويون للأزهريين دورهم، ومن مظاهر عناية الأزهريين بجامع القرويين وأثره العلمي ودوره الجليل مقال عنوانه: (جامعة القرويين بين الماضي والحاضر)، للأستاذ أسعد حسني، منشور في مجلة الأزهر/مجلد 32/ص466/، العدد الصادر بتاريخ جمادي الأولي، سنة 1380ه، الموافق أكتوبر، سنة 1960م، ثم في العدد التالي، من مجلة الأزهر، الصادر بتاريخ جمادي الآخرة، سنة 1380ه، الموافق نوفمبر، سنة 1960م مقال مهم، وفَّي علماء القرويين حقهم، والمقال عنوانه: (جامعة القرويين، وإسهامها في حفظ التراث الإسلامي)، وهو بقلم الدكتور محمد البهي، المدير العام للثقافة الإسلامية حينذاك، ووزير الأوقاف المصري بعد ذلك، بل عندما أقيم الاحتفال المشهود في مدينة الرباط، في شهر أكتوبر سنة 1960م بمناسبة مرور ألف ومائة سنة علي إنشاء جامعة القرويين العريقة، وشقيقة الجامع الأزهر، شارك في الاحتفال الأستاذ الكبير الشيخ محمد نور الحسن، وكيل الجامع الأزهر الشريف آنذاك، وألقي في الحفل كلمة في غاية الطرافة والجودة، عن أوجه الشبه بين الأزهر والقرويين، وقد نشر نص الكلمة في مقال عنوانه: (صدي جامعة القرويين في الجمهورية العربية المتحدة)، نشر في مجلة الأزهر/المجلد 32/ص411/، العدد الصادر بتاريخ جمادي الأولي، سنة 1380ه، الموافق أكتوبر، سنة 1960م، إلي غير ذلك من شواهد المودة والارتباط بين الشعبين الكريمين، ومقدار التداخل الوجداني الذي ترك في أعماق المغاربة منزلة سامية لمصر وشعبها الكريم، وكم عبرت في السماء مواقف وتصرفات وعبارات ليست علي المستوي، ولا تدرك هذا العمق المتجذر، ولا تعرف أهمية الآثار الحيوية المترتبة علي ارتباط الشعبين الكريمين، لكنها أشبه ما تكون بخدش في جدار صلب لا ينال منه، وتبقي مصر العظيمة، وتبقي المملكة المغربية الشقيقة، ويبقي المفكرون والعلماء والمثقفون والشعراء والكتاب والباحثون والرحالة والسائحون، يدركون عمق تاريخ المودة بين البلدين، ويصنعون واقعا مستمرا من التقدير المتبادل، الذي يجعل الأجيال الحاضرة والأجيال القادمة تري أمام عينيها واقعا مستمرا، مازال يتم تصنيعه بأيدينا، من الحفاظ والإضافة والتكميل والبناء والترسيخ لما تركه آباؤنا وأجدادنا من قبل، حتي لا نكون شر الأجيال، وحتي لا يضع عندنا ما بناه من سبقنا، وسلام علي الصادقين.