ربما كان الدخول فى عالم ناصر عراق القصصى أشبه بتحريك جبال المجتمع المصرى بكامل طبقاته و تاريخه و مشكلاته و ملامحه لتقف جميعا أمام مرآة الواقع لنراها كما هى دون مجاملة ولا مواربة . المهمة صعبة و ثقيلة للغاية لكنها شديدة الإمتاع خاصة مع هذا الكم الهائل من التشويق والإثارة الذى يمتلكه هذا الروائى الفذ. «الأهرام» حاورته فى محاولة لكشف كواليسه الخاصة لكتابة أعماله الإبداعية مثل «الأزبكية « و الحاصلة على جائزة كتارا كأكثر رواية قابلة للتحويل إلى عمل درامى و «العاطل» و«الكومبارس» و«نساء القاهرةدبي» و غيرها . و ناقشته فى رؤاه الجادة من أجل إصلاح المؤسسة الثقافية فى مصر. برأيك، ما الذى تحتاجه مصر فعليا لتنهض من عثرتها الثقافية ونعود نقرأ أسماء مصرية جديدة فى سماء الإبداع العربى والعالمي؟ فى ظنى أن النهضة الثقافية المؤثرة لا يمكن أن تتحقق دون نهضة شاملة فى الاقتصاد والعلم والتكنولوجيا، فضلا عن تحقيق المزيد من الديمقراطية فى حياتنا السياسية، لأن الثقافة جزء من، وتعبير عن واقع اجتماعى اقتصادى محدد، فإذا تراجعت السياسة وتعثر الاقتصاد واضطرب العلم والتعليم تأثرت الثقافة بشدة وربما انهارت. لذا أرجو أن نتعامل بجدية مع أوضاعنا المزرية الحالية، فنسعى إلى تطوير التعليم والبحث العلمي، وننشئ حياة ديمقراطية حقيقية، ونعمل على تحقيق قدر معقول من العدالة الاجتماعية، مع ضرورة التركيز على الشباب والاهتمام به فى المجالات كافة، لأن هؤلاء الشباب هم من يمتلكون الهمة والخيال والطموح لتأسيس مجتمع مصرى أكثر عصرية، عندئذ سيتطور العمل الثقافى وسنشعر بنهضة إبداعية تتألق فى الأفق. كنت من الكتاب الذين غامروا بالكتابة عن ثورة الخامس والعشرين من يناير فى أعمالك مثل روايتى (نساء القاهرة. دبي) و(الكومبارس) رغم أن المشهد لم يكن قد اكتمل آنذاك، وربما لم يكتمل بعد… هل فكرت فى إضافات جديدة على طبعات جديدة لهذه الأعمال؟ أو ربما بداية رواية جديدة تعبر عن تطورات المشهد السياسى فى مصر؟ مع كامل احترامى لثورة يناير وشهدائها الأبرار، فقد رأيت مبكرا أن أهداف هذه الثورة الكبرى لن تتحقق، ويكفى ما حققناه من طرد مبارك من عرين الرئاسة واقتلاع فكرة التوريث من الجذور، أما بقية الأهداف فلن ترى النور. وقد كتبت مقالا بعد عدة أشهر قليلة من اندلاع الثورة تحت عنوان (الثورة المغدورة وغموض المستقبل) توقعت فيه أن ثورة يناير تم الغدر بها، وأن أهدافها لن تتحقق، ليس من باب الرجم بالغيب، وإنما من خلال قراءاتى ودراستى لتاريخ الثورات الناجحة والفاشلة فى العالم توصلت إلى هذه النتيجة المؤسفة، فمادام الذين ثاروا لم يتسلموا السلطة، فلن تتحقق الأهداف المرجوة. وقد هاجمنى قراء وأصدقاء كثيرون آنذاك عندما كتبت مقالى إياه، واليوم بعد مرور ست سنوات على هذا المقال، اكتشف المهاجمون صواب ما جاء به. لذا عندما كتبت (نساء القاهرة. دبي) فى 2014، و(الكومبارس) فى 2016، كانت رؤيتى لثورة يناير واضحة ومحددة، فهى ثورة لم تكتمل. أما بخصوص إضافة شيء جديد على ما نشرته من روايات، فلن أفعل، لأن الرواية غير كتاب التاريخ، الرواية اكتملت بالنشر، ولا يحق لصاحبها، فى تقديري، إضافة شيء آخر بعد مدة. ولكن يجوز أن أستلهم بعض وقائع ثورة يناير فى رواية جديدة، وهو أمر فى علم الغيب حتى هذه اللحظة. نذرت الإهداء فى روايتك «الأزبكية» الفائزة بجائزة كتارا الكبرى فى الدورة الثانية 2016 لوالدك، وقلت إنه من زرع فيك فضيلة حب الوطن... حدثنا عن ذلك. أجل... لقد زرع والدى فى روحى فضيلة عشق الوطن بكل طاقته، وكم أعد نفسى محظوظا لأن المقادير منحتنى هذا الوالد الفذ. اسمه عبد الفتاح إبراهيم عراق، وقد ولد فى 22 يونيو 1924، أى أنه ابن بار لثورة 1919، هذه الثورة التى انتشلت المصريين من مستنقع الأفكار العثمانية البائسة ووضعتهم أمام التحدى الكبير للحاق بالحضارة الحديثة. ورغم نشأة والدى فى قرية ريفية فقيرة بمحافظة الغربية، إلا أنه جاء إلى القاهرة عام 1940 ليستقر بها ويعمل فى مصانع الغزل والنسيج بشبرا الخيمة، بعد أن اضطر إلى هجر الدراسة بسبب رحيل والده وهو طفل صغير لم يبلغ السابعة. لقد كان أبى عاشقا للقراءة والاطلاع بصورة لافتة، فعرف الطريق إلى كتابات طه حسين وسلامة موسى والعقاد وفكرى أباظة وداروين وتولستوى وشكسبير ودستوفيسكى ولينين وموليير، المترجمة إلى العربية طبعا، وانفعل بأشعار المتنبى وأبو نواس وشوقي، واستمتع بأم كلثوم وعبد الوهاب اللذين افتتن بهما كثيرا. كما كان من عشاق المسرح والسينما، فشاهد الريحانى ويوسف وهبى وأنور وجدى ومحسن سرحان ويحيى شاهين وعزيزة أمير ودولت أبيض وأمينة رزق وحسين رياض وأحمد علام ومنسى فهمى وغيرهم على خشبة المسرح وفوق الشاشة البيضاء... كما كان يتقن الرسم إتقانا، خاصة بالقلم الرصاص، وقد تأثر بأعمال محمود مختار ومحمود سعيد وأحمد صبرى وبيكار. فضلا عن نشاطه السياسى فى أربعينيات القرن الماضى ضد الاحتلال الانجليزى وجشع أصحاب المصانع الأجانب والمصريين، فتظاهر مع المتظاهرين مطالبا بالاستقلال الوطنى والعدالة الاجتماعية. كل ذلك غرس فى روح والدى حب مصر حبا جما، لأنه أدرك عظمة مبدعيها الكبار وشعبها الطيب، الأمر الذى جعله يعزز فى أبنائه السبعة عشقهم للوطن، وأنا مجرد واحد من هؤلاء الأبناء. هل القراءة فى مصر و العالم العربى فى خطر رغم كثرة المؤلفين وعشرات الأسماء الجديدة التى تظهر فجأة والطفرة الهائلة فى عالم الدعاية؟ ما المخرج؟ الإحصاءاءت لا تكذب بكل أسف، ففى العالم العربى نحو 100 مليون أمى لا يعرفون القراءة والكتابة، أى ربع سكان العالم العربي، وفى مصر وحدها يوجد نحو 26 مليون أمي، ووفقا للجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، فإن نسبة الأمية فى مصر بلغت 29.7% فى عام 2016، وفى العالم العربى ككل وصلت إلى 27.1% فى العام نفسه. وهى أرقام مخيفة جدا. صحيح أن الدعاية وترويج الكتاب تطورت عن ذى قبل، ولكن يظل الكتاب محدود الانتشار بالقياس إلى عدد السكان، فالأمية الكبيرة تعرقل انتشار القراءة، ولا حل سوى بإعادة الاعتبار إلى قيمة التعليم فى المدارس، علاوة على وضع خطة شاملة للاهتمام بالقراءة وتعويد الناس عليها، من خلال تخصيص برامج ثقافية جذابة تعلى من قيمة القراءة، وإطلاق مسابقات وجوائز تدعم موهبة القراءة وتنميها لدى النشء، وقد أحسنت دولة الإمارات عندما قررت أن يكون عام 2016 هو عام القراءة، وطالبت المؤسسات الحكومية والجامعات والمدارس بتخصيص الوقت والمال لتشجيع الجميع على القراءة، وأطلقت جوائز سخية فى هذا الأمر، حتى حققت هذه الخطة نتائج مدهشة. باختصار على الدولة ان تقوم بواجبها وتنفق الكثير لتشجيع الناس على القراءة والتزود بالمعارف. ربما كان شغفك الواضح بالفن التشكيلى سببا فى الشكل البديع الذى تخرج فيه رواياتك ويحظى بإعجاب النقاد والقراء على حد سواء. هل يسبق شكل البناء الروائى فكرة الرواية نفسها أم العكس؟ أغلب الظن أن الفكرة تستدعى الشكل الروائى المناسب لها، ومع الاستمرار فى الكتابة يسهم هذا الشكل فى إنضاج الفكرة وتطويرها وتعزيزها حتى تخرج الرواية للناس فى أحسن تقويم، فعلى سبيل المثال عندما واتتنى الفكرة الرئيسة فى رواية (نساء القاهرة. دبي)، وهى التصدى لكتابة سيرة حياة أسرة مسيحية مصرية فى نصف قرن وما مرت به من تحولات درامية عاصفة، فرضت هذه الفكرة الشكل الروائى الذى ظهرت به الرواية، وهو شكل ينهض على تنامى اتجاهين منفصلين فى البداية ثم تلاقيهما فى نقطة زمنية واحدة فى نهاية الرواية. وقد لاحظ بحق كل من الناقد الكبير الدكتور جابر عضفور والشاعر الكبير الأستاذ بهاء جاهين هذا الشكل الروائى الجديد عندما امتدحا الرواية فى مقالاتهما بالأهرام. هل تحلم بتحويل أى من رواياتك إلى عمل سينمائى أو درامي؟ وأى منها؟ لا ريب فى أن تحويل الرواية إلى عمل درامى أو سينمائى سيسهم فى انتشار أفكار المؤلف بشكل أكبر إذا تمت عملية التحويل هذه بصورة فنية جيدة، وبالفعل فإن فوز (الأزبكية) بجائزة أفضل رواية قابلة للتحويل إلى عمل درامى فى جائزة «كتارا» سيحقق هذه العملية، كما أن هناك اتفاقا مبدئيا مع السيناريست الشاب خالد يوسف على تحويل (نساء القاهرة. دبي) إلى مسلسل وأظنه أنجز عدة حلقات. وأتمنى بطبيعة الحال أن يرى جمهور المشاهدين (العاطل) و(الكومبارس) فى أعمال درامية وسينمائية. ولكن هناك نقطة بالغة الأهمية، وهى أن الكاتب يحاسب فقط على رواياته المنشورة فى كتب، وليس على الأعمال الدرامية التى استلهمت هذه الروايات. اليوم وفى عصر السوشيال ميديا .. هل تهتم بمتابعة آراء الشباب فى أعمالك ورواياتك على المواقع الشهيرة بعروض روايات ككبار الأدباء؟ طبعا أهتم جدا، وأتابع ما ينشره الشباب عند قراءتهم لأعمالي، كما أتابع ما ينشر فى مواقع التواصل الاجتماعى باهتمام، خاصة ما يكتبه الشباب فى أمور السياسة والوطن والثقافة، ولا أظن أنه من الممكن تجاهل هذه المواقع وما تنشره إذا أراد الإنسان أن يعيش عصره وتحولاته، وخير من يعبر عن العصر بأحلامه وآماله وإحباطاته هم الشباب بكل تأكيد. أعتقد، وأرجو أن تصحح لى إن كنت مخطئة، أن الطابع الانهزامى يغلب على الكثير من شخصيات الأبطال فى رواياتك مثل «العاطل» و«الكومبارس»... هل هذه من سمات الشخصية المصرية حقا أم أنك تطلق دعوة ضمنية للثورة على النفس أولا والخروج من الانكسار؟ صحيح أن كثيرا من أبطال رواياتى كانوا منكسرى الخاطر، لكن ذلك يعود إلى الظروف الاجتماعية القاسية التى مروا بها، كما أن ثمة شخصيات رئيسة مهمة كانت تشع الأمل والحماسة فى صفحات هذه الروايات، ففى (العاطل) توجد شخصية منصور ابنة خالة البطل المهزوم، وهو شاب ناضج ومثقف ومتحمس، كذلك فى رواية (الكومبارس) يوجد المثقف الموسوعى المستنير الدكتور جميل الشناوى الذى يسهم فى توعية الشباب بالفكر الثورى ويبث فيهم الأمل، فى محاولة لرفض سلوك البطل الانهزامى عبد المؤمن السعيد. عموما... إذا كان حضور الشخصية الانهزامية قويا، فهذا يعنى أن الرواية ترصد المخاطر الكبرى التى تعرض لها الكثير من أبناء الشعب المصرى خلال النصف قرن الأخير وأدت إلى كمونهم وانكسارهم، الأمر الذى يجب مواجهته بالقرارات السياسية والاقتصادية وبالأعمال الإبداعية الجميلة حتى يسترد المصريون المحبطون تفاؤلهم بالحياة. بعدما تقلدت الكثير من المناصب المهمة فى مجالات الأدب المختلفة فى العالم العربى وأسهمت فى التأسيس للعديد من الجوائز الأدبية الكبيرة، ألا تفكر فى طرح مبادرة جديدة على القائمين على الشأن الثقافى فى مصر لتحريك المياه الراكدة؟ بصراحة... لقد كتبت وتحدثت كثيرا قبل ثورة يناير وبعدها بضرورة إطلاق مجلة ثقافية تليق باسم مصر، تصدر من القاهرة وتتوجه نحو العالم العربي، وتسترد البهاء القديم لمفهوم المطبوعة الثقافية فى ثياب جديدة تلائم عصر التكنولوجيا والفضائيات والسوشيال ميديا، فعندما كنت رئيس تحرير مجلة (دبى الثقافية) لاحظت حجم الطلب المتزايد عليها، فكنا نزيد من الكمية المطبوعة كل عدد، حتى نلبى أشواق القراء إلى المعرفة الجادة الجذابة، ولا أخفى سرا أننى طالبت من بعض الأصدقاء من المثقفين الكبار الذين صاروا وزراء ثقافة بعد الثورة بضرورة إصدار مطبوعة تليق باسم مصر، لكن للأسف الظروف لم تسمح كما قالوا لي، كذلك طالبت بضرورة إطلاق جائزة كبرى تحمل اسم مصر فى الرواية والشعر والقصة القصيرة، لكن يبدو أن الثقافة ليست على جدول أعمال من بيدهم الأمر بكل أسف، فالميزانيات المخصصة للشأن الثقافى زهيدة للغاية. ما الكتاب الذى تعكف على قراءته الآن؟ حاليا أعيد قراءة كتاب (تأريخ القرآن)، وكلمة (تأريخ) بالهمزة، للباحث الألمانى تيودور نولدكه وتلاميذه، وهو موسوعة ضخمة فى ثلاثة أجزاء قرأتها قبل عامين، وأعيد قراءتها الآن لاستثمار بعض المعلومات فى روايتى الجديدة الذى أضع خطتها حاليا. ما هو مشروعك الروائى القادم؟ أنجزت مؤخرا روايتى الجديدة (البلاط الأسود) ودفعت بها إلى الأستاذ محمد رشاد رئيس الدار المصرية اللبنانية، وستصدر قريبا جدا. أما الرواية التى أفكر فيها حاليا، فلا أحب أن أتحدث عنها لأنها مازالت فى طور الجنين. هل هناك سؤال كنت تحب أن أوجهه لك وتجيب عليه؟ طبعا... كنت أتمنى أن تسألينى عن دور المرأة فى حياتي، خاصة وأن روايتى (نساء القاهرة. دبي) تنهض على فكرة الرصد النفسى للمرأة المصرية وماذا جرى لها فى نصف قرن، كما أن المرأة هى مستقبل العالم كما يقول الشاعر الفرنسى أراجون، فضلا عن أننى كنت محظوظا لأن والدتى كانت شغوفة بالقراءة، وبالمناسبة، والدى هو الذى علمها القراءة والكتابة. وقد وعيت على الدنيا وأنا أرى أمى تطالع الصحف اليومية باهتمام شديد، وتقرأ الروايات بانتظام. ولك أن تعلمى أنها رحلت فى المستشفى يوم 2 سبتمبر 1997، وتحت وسادتها رواية ماركيز الجميلة (سرد أحداث موت معلن) التى أعجبت بها كثيرا جدا. كما أن شقيقتى الكبرى الراحلة الدكتورة ماجدة أسهمت بنصيب كبير فى تشكيل ذائقتى ووجداني، ورغم أنها حاصلة على الدكتوراه فى الفيزياء النووية من لندن فى ثمانينيات القرن الماضي، إلا أنها كانت مفتونة بالأدب والفن بشكل عجيب، فكانت تشرح لى وأنا طفل قصائد شوقى والمتنبى ونزار قباني، مثلما كان والدى يوضح لى المعانى الجميلة المستترة فى القصائد التى تغنيها أم كلثوم وعبد الوهاب وأنا لم أكمل العاشرة بعد.