زحمة القضايا والهموم التى تشغلنا جميعاً أخذت تباعد بيننا وبين قضايا ومسائل كنا نعدها فى يوم من الأيام «أولويات إستراتيجية» ذات علاقة مباشرة بأمننا الوطنى، سواء كان هذا الأمن مصريا أو سوريا أو سعوديا أو ليبياً.. الخ، وذات ارتباط قوى بأمننا القومى العربي. وكنا نعتبر أن أى مساس بها يعد من المحرمات، لكن الأمور اختلفت كثيراً الآن، بعد أن انشغل كل منا بهموم وطنه الخاصة، وبالمناسبة هذه الهموم هائلة وشديدة الخطورة. وسط كل هذه الهموم توارت الأولويات والمصالح القومية أو التى لها علاقة بالأمن القومى العربى. كان هناك إدراك إستراتيجى عربى متأصل يقول إن الصراع مع الكيان الصهيونى «صراع وجود وليس صراع حدود» من منطلق الوعى بأن المشروع السياسى الذى يحمله هذا الكيان تهديد أو يستهدف تهديد المشروع القومى العربى وفى القلب منه هدف العرب الأسمى وهو الوحدة العربية، على أساس أن استمرار هذا الكيان الاستعمارى الاستيطانى التوسعى لن يكتفى باغتصاب فلسطين لكنه يخطط للتمدد والتوسع الجغرافى من «الفرات إلى النيل»، ويخطط للسيطرة والهيمنة على كل الوطن العربى «من الخليج إلى المحيط»، ومن ثم فإن القضاء على هذا الكيان هو عمل يستهدف الحفاظ على الوجود العربى والمستقبل العربي. الملفت هنا أن الكيان الصهيونى هو الآخر يعتبر أن الصراع مع العرب ومشروعهم الوحدوى «صراع وجود» وأن «إسرائيل لا تقاتل من أجل حدود فى أرض الميعاد، لكن من أجل وجودها»، الذى سيظل مهدداً ببقاء ووجود ثلاث دول عربية بالأساس هى مصر وسورياوالعراق أى ببقاء هذه الدول قوية وموحدة وملتزمة بعقيدة أن الوحدة العربية هى هدفها الأعلى والأسمي. الآن نحن أمام واقع جديد وتطورات متسارعة ومؤلمة لم يعد أحد يتحدث عن «صراع عربي- صهيوني» أو صراع عربي- إسرائيلي، أو حتى صراع فلسطيني- إسرائيلي. البعض يعترف بوجود نزاع فلسطيني- إسرائيلي، لكن الكثيرين، للأسف، أضحوا على قناعة بأن هذا النزاع الفلسطيني- الإسرائيلى بات عقبة ومعرقلاً لترتيبات تخص الأمن الوطنى لدولهم الذى أخذ يفرض تعاوناً أو تحالفاً، أو على الأقل، تفاهمات مع دولة الكيان الصهيوني. لم يعد أغلبنا مكترثاً بسؤال: كيف حدث هذا التحول؟ ولماذا حدث؟ وكيف أصبح العدو صديقاً وحليفاً، وكيف تحولت فلسطين، التى هى «قلب العروبة ومرتكز أساس الأمن القومى العربي» إلى عقبة فى طريق ترتيبات أمنية تخص دولاً عربية؟. هل كان أى خيال يتصور أن يجرؤ أحد على أن يُفصح بأن إسرائيل ليست هى العدو التاريخى والإستراتيجى للأمة العربية كلها؟!! الآن يوجد من يفاخر بذلك ويجاهر بأنها «حليف موثوق به»!!. وهل كان يمكن لأحد أن يتصور أن تخرج مظاهرة لأكراد العراق، تجوب شوارع العاصمة الألمانية برلين رافعة الأعلام الإسرائيلية وتنادى بتفاخر بالوحدة بين الدولة الكردية المأمولة بالنسبة لهم وبين إسرائيل، أى الربط بين هدف الانفصال الكردى عن العراق وبين دعوتهم الغريبة للاتحاد مع إسرائيل، بما تحمله هذه الدعوة من رسائل تقول إن إعادة تقسيم العرب، وإعادة ترسيم الخرائط السياسية، وهى الدعوة التى كانت عنواناً لمشروع «الشرق الأوسط الكبير» وللغزو الأمريكى للعراق واحتلاله عام 2003، لم تكن فقط بدافع تفتيت الدول العربية وإعادة تقسيمها إلى دويلات وكيانات عرقية وطائفية، بل كانت أيضاً من أجل أن تتجه هذه الكيانات، لحظة ولادتها، إلى الاتحاد مع الكيان الصهيوني، ما يعنى وما يؤكد أن دعوة إعادة ترسيم الخرائط، وجريمة العدوان الأمريكى على العراق واحتلاله كانت بالمطلق تخدم المصالح الإسرائيلية العليا، وهذا ما عبر عنه رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إيهود أولمرت عندما ذهب إلى واشنطن خصيصاً ليقدم واجب الشكر للرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش (الابن) لأنه بتدميره العراق حقق أحد أهم الأهداف الإسرائيلية العليا. وبالمثل هل كان أحد يتصور أن دعوة وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس فى أوج الحرب الإجرامية الإسرائيلية على لبنان صيف 2006 بأنه «من رحم هذه الحرب يجب أن يولد شرق أوسط جديد» ستكون هى الحاكمة للتفاعلات العربية والإقليمية الراهنة؟! الشرق الأوسط الجديد الذى دعت إليه كوندوليزا رايس كان يفترض أن يقوم من وجهة نظرها على ثلاثة مرتكزات الأول هى أن يستبدل الصراع فى الشرق الأوسط من صراع عربي- إسرائيلى إلى صراع عربي- إيراني، وهذا يحدث الآن، والثانى أن يستبدل العدو بالنسبة للعرب بأن تصبح إيران هى العدو وليست إسرائيل، وهذا يحدث الآن، والثالث أن يكون الصراع السُني- الشيعى هو الصراع الحاكم للتفاعلات الإقليمية، وهو الذى سيجعل إيران هى العدو وليست إسرائيل، وهو الذى سينهى أسطورة الصراع العربي- الإسرائيلى ليفرض ملحمة الصراع العربي- الإيراني، الذى من شأنه أن يجعل إسرائيل حليفاً جديداً للعرب، على نحو ما بات يحدث الآن. ما كان يعتبر مشروعاً افتراضياً منذ أعوام قليلة مضت أضحى الآن أمراً واقعاً.. ولا نسأل: كيف حدث؟ وإلى أين يقودنا هذا التحول ولمصلحة من يحدث هذا كله؟ ولماذا يندفع الجميع للانخراط فى مستنقع تنفيذه: العرب والإيرانيون والأتراك بوعى أو بدون وعى للدور الإسرائيلي، ومن يريد أن يفهم عليه أن يتابع تطورات الأزمة القطرية الراهنة وأدوار جميع الأطراف التى تفاقم فى النهاية من فرض الاستقطاب الإقليمى الجديد. فالانحياز الإيراني- التركى لقطر يعمق من مشاعر الطرف العربى الآخر بالعدوانية الإيرانية والتركية وييسر كثيراً لإسرائيل مساعيها لتأسيس تحالف إسرائيلي- عربى جديد يستهدف إيران. كما أن تفاقم الشعور الأردنى من مخاطر كثافة الوجود الإيرانى فى الجنوب السورى يزيد من دوافع التقارب الأردنى مع إسرائيل، ولذلك عززت إسرائيل والأردن فى الفترة الأخيرة من إجراءات التنسيق الأمنى بينهما بسبب الأحدث المتسارعة والمتفاقمة فى جنوبسوريا، على نحو ما كشف «عاموس هرئيل» فى صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية. هى المصالح إذن؟!! لا يسأل أحد عن كيف تحولت المحرمات إلى مصالح؟ لكن مؤتمر هرتسيليا (الإسرائيلي) السابع عشر، الذى عقد مؤخراً تحت عنوان «ميزان الفرص والمخاطر على دولة إسرائيل» حاول أن يقدم إجابات للأسئلة الغامضة من الضرورى التعرف عليها. لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس;