آخر الليالى العشر المباركات من رمضان هى ليلة العيد. والعيد نبع من الذكريات الطفلة. قمرُ ليلتِه هلال, وصباحه بدور من فضة فئة الخمسة أو العشرة قروش, أو ريال مكتمل؛ بدر تمام هو عشرون قرشاً بالتمام والكمال. وهو حادثة نادراً ما حدثت فى طفولتى أو طفولة مثلى, حيث كانت تمتد أيدينا الصغيرة تتلقى شاكرة العيدية من الجد أو الجدة, أو الخال والعمة, ناهيك عن الأب والأم. كانت العيدية المعتمدة بقوة العرف فى الستينيات تتراوح بين شلن (إن كان القريب بخيلاً) وعشرة قروش إن كان مبسوط اليد معطاءً, أما مانح الريال فهو مبذر متهور. ولا أتذكر فى طفولتى أن تلقيت عيدية كهذى. وعلى العموم, كانت احتياجات الطفل, ليصرف ويصرف إلى حد العربدة, ويتمتع بكل مباهج العيد فى الشارع تحت البيت, لا تتجاوز الريال فى اليوم كله: فتأجير دراجة (وفى حالتى كانت عجلة بتلاتة) لمدة ساعة كاملة لا يتجاوز ثلاثة قروش, والبمب مهما أسرفت فى شرائه يتكلف قرشين, والبخت مثلهما أو أقل, والبالونة بقرش, فإذا فرقعت منك اشتريت أخرى بقرش آخر, والنحلة, التى تدور وتدور حول نفسها حتى تميل وتسقط منهكة على جانبها فى أسفلت الشارع, ثمنها أيضا قروش قليلة, والبلية الواحدة بتعريفة, أو بقرش إن كان بائعها لصاً, والبونبونى أو الباستيليا الأربعة بقرش.. جنة أطفال بكاملها, على امتداد أيام العيد الثلاثة, تتكلف بالكاد ومع البذخ ريالاً واحداً فى اليوم.. إلا إذا جاء العيد فى الصيف كما الحال الآن وكنت طفلاً مسرفاً, وأهلك متساهلون معك ومدللون إياك إلى حد الإفساد, بحيث قررت ووافق والداك الذهاب إلى سينما الحى الصيفية ثلاث ليال متوالية, وحجزت فى كل مرة تذكرة بلكون فاخرة ثمنها ويا للهول شلن.. خمسة قروش كاملة! تخيّل معى الصدمة, التى ظللتُ إزاءها أخرس لا أستطيع النطق لعدة دقائق, ومتوولاً مذهولاً لزمن طويل لم أسلم من ذهوله حتى الآن, بعد أن مضت سنوات وعقود طويلة على ذلك الصباح المبارك, صباح عيد فى السبعينيات، وكنت كبرت فصرت مراهقاً, وها أنا أتأمل فى يدى نفحة والدى: ورقة زرقاء جديدة مسنونة, كبيرة ممتدة تملأ راحة اليد- رغم أن اليد صارت هى الأخرى كبيرة, إذا قيست براحة الطفل الذى كنته فى الستينيات- ورقة مالية عظيمة الحجم والقيمة فئة الخمسة جنيهات. نعم, جنيهات خمسة محتشدة فى ورقة واحدة زرقاء منقوشة لها جلال وهيبة. أخذت أتأملها فاقد النطق, نصف غائب عن الوعى. ولا أعلم حتى الآن إن كنت, وسط غيبوبتى تلك, شكرت أبى أم لا على هذه النفحة الاستثنائية, التى لم أتلق مثلها أو حتى ربعها من قبل.. ورغم ذلك هى لا شىء, إذا قيست بأقل ما أعطانيه أبى من حنان واهتمام وعلم ومعرفة و فى كلمة واحدة «أبوة». وبالطبع هى لا شىء إذا قيست بما أنفقه علىّ, خاصة بعد أن جُنّت الأيام مع انتصاف السبعينيات وحتى لاقى وجه ربه. لكنّ تلك النفحة, تلك العيدية العظيمة, تظل محفورة فى وجدان الطفل الذى بالكاد قد بلغ المراهقة, مثالاً على الكرم الذى كانه أبى؛ وليس معى فقط, وليس بالمال فقط, بل كل كلمة كتبها أو قالها كانت حالة عطاء وحنان وكرم فيّاض. ليلة غد هى ليلة العيد. يستيقظ الطفل الذى داخلنا, وتستيقظ معه ذكرياته الحلوة. فنرجو من الله أن يأتى العيد ويمر ونحن فى سلام وأمن, هانئين بما منحه الله لنا من عيدية الفرح, إن شاء وتكرَّم, وأذن أن نصرفها ونحن فى خير وسلام. لمزيد من مقالات بهاء جاهين