فى لحظة ثقة تحولت إلى رهان خاسر رأت السيدة تيريزا ماى رئيسة وزراء بريطانيا إجراء انتخابات برلمانية مبكرة فى 8 يونيو2017 للحصول على شرعية خاصة بها منفصلة عن تلك التى ورثتها من سلفها ديفيد كاميرون بعد الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبى فى يونيو 2016، ولتقوية موقفها التفاوضى لخروج وصفته بزهو بالصعب. لكن السيدة ماى خرجت من الانتخابات بطة عرجاء بعد أن طابت لها مقارنتها بالسيدة الحديدية ثاتشر. وبينما كانت ماى فى استفتاء الخروج مع معسكر البقاء فى الاتحاد ها هى تقود حكومة الخروج بخليط من مؤيدى البقاء والخروج والعداء للهجرة الذى يضم قائد حملة العداء للهجرة الشرس وزير الخارجية بوريس جونسون ذا الجذور التركية المسلمة، فى الأحد عشر شهرا من حكمها عبرت عن انحياز لأصحاب الأعمال وعدم الرفق بالمتقاعدين وتخفيض ميزانية وقوات البوليس فى بلد يواجه تحديات الإرهاب ولم تخصص مالا كافيا لنظام التأمين الصحى أبرز إنجازات بريطانيا الاجتماعية العمالية منذ عام 1945 وانحازت ضريبيا للأثرياء بحجة تشجيع الاستثمار الأجنبى فى مجتمع يزداد فيه تجذر القبول بقيم المساواة والتعددية الثقافية وخاصة بين الشباب الذين كان لهم دور واضح فى تراجع منزلتها الانتخابية. منذ الاستفتاء تعيش بريطانيا خضات متواصلة، منها: الانقسام المماثل تقريبا للشرخ المجتمعى فى أثناء مشاركتها فى الغزو الغاشم للعراق واحتلاله عام 2003 مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، وتدهور قيمة الاسترليني، وإعلان عدة شركات عملاقة عابرة للقارات رغبتها الانتقال إلى أماكن أكثر أمانا فى اوروبا وتباطؤ نموها الاقتصادي، 02 بالمائة بينما هو فى اليونان 04 بالمائة رغم متاعب الأخيرة. وتسود قناعة فى معسكر الخروج من الاتحاد بأن بريطانيا ستكون قادرة على تعويض خسائرها بإقامة علاقات أقوى مع الصين والهند والخليج وتركيا والولاياتالمتحدة بديلا لعلاقتها الاقتصادية القارية. وكالغريق الذى يتشبث بقشة ورغم المتغيرات فى الساحتين الدولية والأمريكية تصر لندن على قوة وديمومة ما تسميه «العلاقة الخاصة» مع واشنطن رغم إبعاد الرئيس أوباما تمثالا صغيرا لونستون تشرشل من البيت الأبيض لم يعده الرئيس ترامب إليه إلا لأن المحافظين يحكمون بريطانيا. العلاقة الخاصة علاقة إستراتيجية لا تخضع للتقلبات ولكن الوله الامبراطورى البريطانى يرى أنه بحاجة إلى مظلة الامبراطورية الأمريكية رغم أن بريطانيا عضو مهم فى تحالف الأطلسى ومنتج كبير للسلاح وقوة نووية. وفى لحظة غلبة المصلحة الوطنية تظهر هشاشة هذه الدولة النووية - الديمقراطية عند الخضوع لرغبات أطراف تضع أمامها خيار مشترياتها من السلاح فى كفة ومجرد إثارة حقوق الإنسان فى كفة أخري. وفى الضفة الأخرى كان حزب العمال مع بقاء بريطانيا فى الاتحاد ولكنه قبل بنتيجة الاستفتاء الضيقة 52 بالمائة للخروج وخاض حملته الانتخابية على أساس أن الخروج رغبة شعبية لا تقاوم رغم دعوات السيد تونى بلير لإجراء استفتاء ثان حوله وهو ما لن يتم لأن الانتخابات الأخيرة بمثابة استفتاء ثان على الخروج. ومثل المحافظين يهدف العمال إلى تقوية موقف بريطانيا التفاوضى والاتفاق على ترتيبات للتبادل التجارى تتضمن تخفيضات جمركية على المنتجات البريطانية لكى تبقى بريطانيا جاذبة للاستثمار ولكنهم يختلفون معهم حول استمرار إقامة مواطنى دول الاتحاد فى بريطانيا مقابل بقاء مليونى بريطانى فيها بكامل الامتيازات التى توفرها العضوية. ومن تداعيات الانتخابات أن حكومة المحافظين حكومة أقلية تتسم بالضعف لأن المحافظين لم يحصلوا على الأغلبية المطلوبة للحكم منفردين ولذلك اضطروا للتحالف مع الحزب الوحدوى الديمقراطى (أيرلندا الشمالية) الذى لا يملك أجندة وطنية وهوغريب عن المشاركة الحكومية فى وستمنستر لأنه حزب محلى لم يفكر يوما ما بأنه سيكون شريكا فى السلطة المركزية.هذا التحالف يلقى انتقادات من عناصر محافظة ويسبب للمحافظين حرجا كبيرا لأنه متهم بالتطرف ومعارضة الإجهاض ومناهضة حقوق المرأة وعلى علاقة بعناصر وحدوية إرهابية ويعرقل منذ يناير إقالة رئيسة وزراء ايرلندا الشمالية المتهمة بالفساد المالي. ومن أشد انتقادات هذا التحالف أنه سيقوض دور الحكومة فى أن تكون وسيطا محايدا فى حل الخلافات بين الكاثوليك والبروتستانت وأنه قد يدمر اتفاق السلام فى ايرلندا الشمالية الذى تحقق فى عام 2007 بعد عشر سنوات من التفاوض الصعب. هذا التحالف يضع السيدة ماى فى تناقض مع نفسها عندما تقول أن حكومتها ستجلب لبريطانيا الثقة واليقين وهذا لا يتم بتحالف مع قوة تمثل البدايات الأيديولوجية الأولى لحزب المحافظين قبل أن يتأنسن. وكذلك توقف الحزب الوطنى الاسكتلندى عن المطالبة بإجراء استفتاء ثان لانفصال اسكتلندا عن بريطانيا (الأول كان فى سبتمبر 2014) بعد خسارة أفقدته 21 من 56 مقعدا برلمانيا. ومن مفاجآت الانتخابات فى اسكتلندا فوز المحافظين ب13 مقعدا بعد أن كان لهم مقعد واحد وهذا مؤشر على معارضة متزايدة للاستقلال فى إقليم لا يكن تاريخيا أى ود للمحافظين. علاوة على نهاية حزب الاستقلال الشعبوى يوكيب - الذى كان المحفز لاستفتاء الخروج من الاتحاد وفقدانه مقعده الوحيد فى البرلمان السابق. وهناك مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي، فقد توارى الجدل بعد نتائج الانتخابات حول خروج صعب أو ناعم لأن ماى تدرك أن موقفها التفاوضى أصبح ضعيفا لأنها تقود حكومة أقلية معرضة للاطاحة بها فى أى وقت ومن مصلحة بريطانيا أن يضم إلى فريق التفاوض عناصر من حزبى العمال والأحرار والنقابات. وأسهم الشباب بتطلعاتهم لمجتمع أفضل تتوافر فيه فرص العمل والمساواة فى إضعاف المحافظين وفى حصول العمال على مقاعد لم يحصلوا عليها منذ عقود. وتتويج السيد كوربين كزعيم لا ينافس لحزب العمال بعد حصوله على 262 مقعدا برلمانيا وهو الذى شكك فى قدراته القيادية عدد من القادة العماليين المخضرمين ولكنه لم يعبأ وراهن على تأييد الشعب وعلى النقابات العمالية. لقد كان الفارق بين العمال والمحافظين فى سبع دوائر انتخابية هو 2227 صوتا لو حصل عليها كوربين لأصبح رئيسا للوزراء بدون التحالف مع أى حزب. ولكوربين أن يفخر بإنجازه وبإعادة الثقة فى حزب العمال بعد أن أضعفه بلير الذى تسبب فى تخلى 400 ألف عضو عن الحزب بسبب حرب العراق، لقد قلل البعض من قيمته وتحدى قيادته منذ عام 2015 البعض الآخر لسبب رئيسى وهو أنه يسارى الهوى ويسبح ضد التيار. إن بريطانيا مقبلة على مرحلة من عدم اليقين والضعف رغم التفاؤل الاقتصادى المفرط للسيدة ماى لأن الخاسر الأكبر هو الاقتصاد الذى سيفقد مزايا عظمى توفرها أسواق الاتحاد الأوروبى الشريك القارى الأكبر. ومعروف أن كوربين من أقوى مناصرى قضية فلسطين وكان من قادة «تحالف أوقفوا الحرب» ضد العراق عام 2003 ولكن لأن حابل القضية اختلط بنابل قضايا أخرى لم تكن فى الحسبان وجب ذكرها فى نهاية المقال لأن لقضايا اليوم مقاماتها. سفير يمنى سابق فى بريطانيا لمزيد من مقالات على محسن حميد;