رمضان الآن لا علاقة له بما عرفناه فى طفولتنا وشبابنا، فلم تكن القرى قد عرفت التليفزيون بعد، وكان الراديو يحتل الصدارة فى سماع القرآن، والمسلسلات، والغناء، وكان يجمع حوله الملايين بشغف فريد. وظلّت «ألف ليلة وليلة» لسنوات طويلة دُرّة الأعمال الإذاعية، بصوت «زوزو نبيل» البديع، وأداء «صلاح منصور» الرائع. ولا أظن أن شعبا احتفى برمضان غنائيا، كما فعل الفن المصري، فخلال أواسط القرن العشرين، ظهرت أغنيات خاصة به دون كل شهور العام، وباتت «وحوى يا وحوي.. إياحا.. رحت يا شعبان.. وحوينا الدار.. جيت يا رمضان.. علامة على الشهر. ومثلها أغنية محمد عبد المطلب وصوته المناسب تماما ل «رمضان جانا.. وفرحنا به.. بعد غيابه.. أهلا رمضان»، وغيرها كثير من الأغانى المبهجة. وكذا اكتسبت «طقوسية رمضان» علاقة شرطية حميمة مع صوت الشيخ «محمد رفعت».. فامتزجا فى وجدان العموم، «فلا رمضان بلا رفعت»، حتى إذا سمعناه فى أى وقت من السنة تذكرنا الصيام من فورنا، ولحظة ما قبل الإفطار بكل ما فيها من إعياء الجوع، المختلط بصوت الشيخ الجليل، المشوب بشوشرة تهالك التسجيلات، وفرحنا بنطقه «صدق الله العظيم»، لينطلق فى إثره صوت حاد من الراديو «مدفع الإفطار.. إضرب»، لنسمع فرقعات المدفع المكتومة، ثم يجلجل الشيخ «عبد الباسط عبد الصمد» الآذان بصوته المعدنى العذب «الله أكبر الله أكبر»، وبين ترديد الحديث النبوى «اللَّهُمَّ لَكَ صُمْنَا وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْنَا..»، و«ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ»، يصدح صوت الشيخ النقشبندى «يارب كرمك علينا.. يارب نصرك معانا»، ووسط قعقعات الملاعق، وصدى الأطباق، ولُهاث اللهفة، والمضغ المسموع، ساعتها تنطلق موسيقى «ريمسكى كورساكوف» المدهشة، فى تتر مسلسل «ألف ليلة وليلة» الإذاعى للعبقري «بابا شارو»، والشاعر البارع طاهر أبو فاشا، وبصوت «زوزو نبيل» الذكي، يتلون ببراعة بين حكايات «شهر زاد» الأسطورية، وهى تراوغ مولاها الملك «شهريار» وهو يمهلها ليلة وراء أخرى، ليمضى رمضان تلو الآخر، فيدركها الصباح، ولا ندرك نحن نهاية الحكايات، وبمجرد انتهائنا من الطعام، نفر إلى الشوارع لنلعب، ويحكى لنا العيال الكبار بعض الحواديت، والأحجيات لنتشارك حلِّها، وفى شوارع القرية المظلمة، على ضوء شحيح يتسرب إلينا من «كلوبات المنادر» التى يتلون فيها جزء من القرآن كل يوم، من بعد صلاة التراويح إلى موعد السحور قبيل الفجر، وكانت رائحة القرفة الفائحة تضفى على الليل جمالا إضافيا خفيا. ووسط لعبنا كنا نترقب وصول المسحراتي، بطبلته القوية، وفانوسه الكبير، لنجوب معه شوارع القرية وهو يردد بصوت عذب «إصح يا نايم.. وحد الدايم» ويردد أسماء أهل البيوت واحدا واحدا. كان يردد أغلب أسماء البلد يوميا بلا كلل، وكان ينزعج جدا إذا أمسكنا فى جلبابه حين تنبح علينا كلاب، لكننا لم نكن نرتدع، ورغم انزعاجه لم ينهرنا، كأنه كان يأتنس بوجودنا. ونعود من الجولة منهكين، وتكون المنادر قد أنهت قراءة الجزء، ونهرول إلى طعام السحور، ونشرب عدة مرات قبل انطلاق أذان الفجر، وكم كانت سعادتنا حين بدأنا نواظب على صلاة الفجر فى المسجد، وسط تشجيع الكبار. كان رمضان براحا للبهجة، والإحساس الأولى بصفاء الصلاة فى خشوع مضاعف، كان أعمق كثيرا من زغب القلوب. حين انتشر التليفزيون فى جميع الأنحاء، اختفى تقريبا دور الراديو، ورحل بابا شارو بكل خياله وتراثه، وسكت أبو فاشا، وماتت زوزو نبيل. نعم بقى صوت الشيخ رفعت، وعبد الباسط، والنقشبندي، لكن الصخب المحيط، شتت قدرات الناس على الإنصات، وبدَّد ذلك الجلال البهي، وتاه الخشوع الصافى وسط ضجيج الميكروفونات، وفوضى ضوضاء التكاتك!!.