يحمل شهر رمضان المعظم خصوصية في نفس الواحد منا طفلا أو كبيرا حيث تكاد تتكرر المشاهد في كل حي أو قرية أو بلد, قبل أن تباعد بينها المسافات الفضائية والتغيرات الاجتماعية لتجعل من بقايا الذكريات صورا باهتة في وجداننا كلما اشتقنا إلي مصر الأصالة. فيوم استطلاع الهلال كان يمثل عيدا لنا لاسيما عندما نسمع الجملة الشهيرة بصوت المفتي أعلنا نحن مفتي الديار أن غدا... لتبدأ الأفران في مضاعفة طاقتها ويطوف بائع الفول في منطقته ليتحلق حوله الجميع مستبدلين به لقاء الصباح المعتاد. وتبدأ الزينات في الإضاءة مع ارتفاع صخب الأغاني الرمضانية الشهيرة وعلي رأسها أهلا رمضان ووحوي يا وحوي. التي يرددها الأطفال حاملو الفوانيس الصاج بالباب الزجاجي والشمعة المضيئة, قبل الهجمة الفانوسية الصينية الشرسة علي كافة المظاهر حتي لأكاد أصدق إن قيل أن ثمة كنافة وقطايف صينية تغزو الأسواق. وما إن يهجع البعض لسنة من النوم حتي يأتي الرمز التاريخي لرمضان ممثلا في المسحراتي الذي يحتاج بمفرده مقالا خاصا لما يحيط به من زخم, ليردد أهازيجه الخاصة مطعمة بأسماء الأطفال التي تمت كتابتها علي باب كل بيت. ويالسعادة الطفولة البريئة وهي تستمع لنداء المسحراتي لترتفع نشوة المتابعة بذكر الاسم, وكأنه يداعب فينا تطلعات الشهرة المبكرة أو بالأحري( التصييت). لتبدأ نوبة السحور التي تمثل ثقلا علي النوام لاسيما من لم تكن في نيته حضور صلاة الفجر!. لينتهي إنهاك الليلة الأولي لست البيت التي تكون قد واصلت ليلها بنهارها وبعدما تكون قد رتبت لإفطار الغد, واضعة في الاعتبار إن كانت سيدة البيت الكبير الجمع السنوي لكل الأبناء مع تخصيص بعض المزايا لخطيب إحدي البنات إن كان موجودا. مع الوعد بدعوة خاصة لأسرته تستعرض فيها مهارات الابنة رغم أن جميع خيرات الله في ذلك اليوم هي بتوقيع الأم أساسا. وعندما يبدأ الشيخ رفعت في التلاوة ليعقبه مدفع الإفطار وصوت النقشبندي المؤثر, إلا وتسمع أصوات الأواني وأدوات الطعام وقد علا صوتها لينافس صوت الراديو معلنة عن نهاية صوم أول يوم مع أمل من الله بالقبول. وبعد الإفطار تتباين المشارب المتعددة لكل فرد..فهناك من يغادر ليلحق السحور لدي حماته تحقيقا للتوازن بين القوي( الكبري) الذي هو أصعب في تحقيقه من التوازنات علي الساحة الدولية. وهناك من يتحلق حول الراديو لمتابعة الفزورة ومن بعدها المسلسل وهو ما نجح طغيان التلفاز في سحب معظم البساط منه. في حين يتجه الكبير إلي الصلاة بالمسجد ومعه بعض الأبناء, حريصا علي التبكير قبل زحام الأيام الأولي الذي سرعان ما يتناقص أعداد المصلين فيه بتتابع أيام الشهر! لتتوالي الأيام هادئة الصخب مكررة الأداء لا يكسر حدتها سوي التردد علي الخياطة والترزي لمتابعة تفصيل لبس العيد أو حديث صاجات الكعك وغيره إلي الفرن غدوة ورواحا..هذه بعض مظاهر الذكريات الرمضانية التي نستدعيها كلما شق علينا التجمع لنسترجع ما كانت عليه الأسرة المصرية قبل أن تتفكك عري وحدتها, ولتعمق المصالح المتضاربة والانتماءات المتباينة من الخلاف بين أبناء الأسرة الواحدة..ليأتي رمضان كل عام إما غريبا عنا أو بالأحري مستغربا بعدما تحكمت الفضائيات في إيقاعاتنا الرمضانية بسباق المسلسلات والفوازير وإعلانات( التسول) الخيري وشيفات آخر زمن, أو بوجبات( التيك آواي) بحكم انشغال ست البيت بكل شيء إلا البيت..وكل عام وأنتم والوطن بكل الخير.