تتميز العلاقات الثقافية المصرية الفرنسية بالعراقة والتفاعل المستمر عبر القرون والأجيال، فكل بلد يمثل فى عيون الآخر حضارة وثقافة وتراثا وتاريخا تليدا، وتعتبر فرنسا من البلاد الفاعلة المؤثرة فى التاريخ المصرى الحديث، منذ الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت، وحتى الرئيس السابق فرانسوا أولاند، الذى شهدت العلاقات المصرية الفرنسية فى عهده تطورًا كبيرًا فى مختلف المجالات. وفى المقابل، تمثل مصر لفرنسا تراثًا ضخمًا متنوعًا من الأدب والفنون بمختلف أشكالها والحضارة بآثارها العريقة والثقافة بشكل عام، بل وكنزًا معرفيًّا فى الحياة الاجتماعية التى أثارت شغف الفرنسيين طوال عهود، وكانت ثمرتها كتاب «فى وصف مصر» الذى وصف مصر وشعبها بالكلمة والصورة. ومنذ حلول عام 2017، بدأ التفاعل الثقافى المشترك بين البلدين فى أوجه عديدة كالفنون والتاريخ والأدب، وأبرزها مجالا الترجمة والآثار، وشهدت قطاعات وزارة الثقافة المصرية عددًا من الأنشطة فى الأشهر الماضية، وبعضها ينطلق الشهر الحالى، وفى المقابل، شهد المركز الثقافى المصرى فى باريس أحداثا ثقافية ثرية على مدى الشهور الثلاثة الماضية، ويعد أيضا لمجموعة من الأنشطة الأخرى خلال الفترة المقبلة. ففى شهر مايو الحالي، وعلى مدار يومى 21 و22 ، تنظم أمانة المؤتمرات فى المجلس الأعلى للثقافة، وبالتعاون مع لجنة التاريخ، حدثا ثقافيا مهما، هو ملتقى العلاقات الثقافية المصرية الفرنسية، تحت عنوان «دروس الماضى وآفاق المستقبل»، تحت رعاية حلمى النمنم وزير الثقافة. وفِى أبريل الماضي، أصدر المركز القومى للترجمة مجموعة من أحدث إصداراته، كان من أبرزها كتاب تأريخى مهم هو «التحول الكبير: إعادة تكوين الثروات وشبكات التحول الاجتماعى فى عصر محمد علي»، من تأليف بسكال غزالة، وترجمته من الفرنسية إلى العربية راوية صادق، ويتناول الكتاب كيفية تأسيس وتعزيز ونقل الثروات فى مصر فى الفترة بين عامى 1780 1830، بالاستناد الى حجج المحاكم العثمانية ووثائق الدولة المصرية. من جانب آخر، شهد شهر مارس الماضى اكتشافًا أثريًّا مهمًا لبعثة التنقيب الفرنسية المصرية المشتركة فى «تل السمارة» مركز تمى الأمديد، فى الدقهلية، عبارة عن مجموعة من القطع الأثرية النادرة يعود عصرها إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، من عصر المعادن، وبوتو ونقادة. وكان شهر فبراير أكثر زخمًا، إذ استضاف مركز الترجمة برئاسة الدكتور أنور مغيث المستشرق الفرنسى الكبير هنرى لورانس فى واحدة من كبرى قاعاته، وهى قاعة طه حسين، بمناسبة الانتهاء من ترجمة وإصدار الجزء الأخير من الكتاب الموسوعى «مسألة فلسطين»، وحضر اللقاء المترجم الكبير بشير السباعى الذى نقل هذا الإنجاز الضخم إلى العربية، وأداره الدكتور مغيث. والمستشرق الفرنسى لورانس يشغل منصب أستاذ تاريخ العالم العربى المعاصر فى «كولاج دو فرانس» التى تعتبر من أعلى المؤسسات العلمية الفرنسية، ويتميّز لورانس بأنه يحاول فى كتاباته عن الشرق أن يبحث عن معرفة الآخر، وقد تعلم العربية لإكمال دراسته العليا، وتعلمه العربية مَكّنَه بشكل أفضل من البحث التاريخى عن طبيعة العلاقات بين الشرق والغرب فهو يدرس تاريخ المنطقة العربية، متخذًا حملة نابليون بونابرت نقطة فاصلة، لكنه لا يكتفى بدراسة الحملة ذاتها، إنما يعود إلى الوراء قرنًا من الزمان ويتقدم بعدها إلى الأمام قرنين، حتى يصل إلى عصرنا الراهن، ليعطى صورة شاملة عن أوضاع العالم العربى على مدى القرون الثلاثة المنصرمة، وهى القرون التى تعرفنا فيها على حداثة الغرب، ويسعى من خلال بحثه فى الأعوام الأولى لتكوُّن هذه العلاقات فى القرنين السابع والثامن عشر، لإدراك الدوافع والأهداف التى حملت الفرنسيين إلى التطلع نحو الشرق. ولورانس له عدد كبير من المؤلفات تناولت العالم العربى والاسلامى فى حقبات تاريخية مختلفة، منها الكتاب المهم «أوروبا والعالم الإسلامى : تاريخ بلا أساطير»، وصدرت ترجمته عن المركز القومى للترجمة، و«الإمبراطورية وأعداؤها»، و«السلام والحرب فى الشرق الأوسط»، و«الشرق العربى فى عهد الهيمنة الأمريكية»، و«بونابرت بين الإسلام والدولة اليهودية»، و«الأصول الفكرية للحملة الفرنسية على مصر: الاستشراق المتأسلم فى فرنسا»، وكتاب «مسألة فلسطين»، وهو ليس وصفًا تاريخيًّا فقط، بل توثيقيا لمسألة فلسطين، حيث يقدم تسجيلًا توثيقيًّا دقيقًا لمختلف مراحل تطور الصراع على فلسطين، وقد اعتمد المؤلف على وفرة من الوثائق التى لم يسبق الاعتماد عليها، ويهدف من هذا الكتاب الضخم إلى المساعدة على إيجاد حل لمسألة فلسطين. وفِى الشهر نفسه، اكتشفت بعثة التنقيب الفرنسية المصرية أهم موقع أثرى فى جبال العين السخنة، وهو عبارة عن 9 مغارات أثرية ونقوش ومدينة للعمال وسكاكين حجرية، وقد استخدم الفراعنة الموقع لاستخراج النحاس وصهره. وشهد يناير الماضى مشاركة فرنسية قوية فى أهم حدث ثقافى فى مصر وهو معرض الكتاب، إذ شاركت فرنسا بجناح ضخم مثلتها فيه خمس مؤسسات تعاونية ومراكز بحثية فرنسية فى مصر هى : المعهد الفرنسى بمصر، والوكالة الفرنسية للتنمية، ومركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية، والمعهد الفرنسى للآثار الشرقية، ومعهد البحوث من أجل التنمية، إلى جانب أربع مكتبات فرانكوفونية، هى : ليبريريه فرانكو- إچيبسيان، ليبريريه فرانكوفون، لازيميه دى ليفر، ليبريريه رونيسانس. وتميز الجناح الفرنسى بتقديم المكتبة الرقمية Culturethèque، التى طورها المعهد الفرنسى فى باريس، وتسمح للمتصفح بالوصول إلى مئات الآلاف من الوثائق والمصادر باللغة الفرنسية، وتحظى باهتمام قاعدة عريضة من القراء، ولاقى الجناح إقباًلا كبيرًا من الجمهور المصرى والضيوف الفرنسيين والشخصيات العامة والممثلين عن قطاع الكتاب فى مصر. وفِى فرنسا، نظم المركز الثقافى المصرى بباريس خلال الأشهر الماضية مجموعة من الأنشطة الثقافية الثرية، بدأت فى أوائل مايو الحالى بمعرض فنى بعنوان «الفن العفوى لسيدات أخميم»، ومحاضرة عن «أخميم قديمًا وحديثًا»، وتضمن المعرض، الذى أعدته مجموعة من أعضاء جمعية أصدقاء الصعيد، وعلى رأسهم سمير شاكور وجان بول مورى 49 لوحة فنية من تطريز سيدات أخميم، بالإضافة إلى عدد كبير من المشغولات اليدوية من الأقمشة والمفارش المطرزة بالألوان الجذابة التى تعبر على مدى براعة سيدات أخميم. فيما استعرضت مارى سيسيل بروير مديرة متحف ماريمون الجزء الأول من المحاضرة عن «أخميم قديمًا» مدى أصالة هذا الفن، وربطت بينه وبين الحضارة الفرعونية القديمة، ثم استعرض روبيرسوليه الروائى والكاتب الصحفى بجريدة « لوموند» تاريخ مركز أخميم للسيدات منذ نشأته وحتى الآن، وكيف تمت المحافظه عليه، وعلى هذا الفن العفوى الرائع. وفِى مارس، أقام المركز بمقره حفلًا موسيقيًّا جميلًا بمناسبة ذكرى رحيل العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، أحيته فرقة مدرسة الموسيقى المصرية التابعة للمكتب الثقافى المصرى بباريس، ولاقى العرض إقبالًا كبيرًا من الحضور، وشارك فيه عدد من المطربين العرب فى باريس، من سوريا ولبنان والمغرب وتونس. وفِى نهاية الشهر نفسه، استضاف المركز الثقافى المصرى بباريس معرضًا عن صعيد مصر للفنانة الفرنسية الكبيرة فرانسواز شابو، التى تعد من كبرى العاشقات للتراث المصرى القديم والمعاصر، وتضمن مجموعة من اللوحات الجميلة عن الصعيد بألوان الجواش والإكواريل، وعرضت فيه شابو على شاشة عملاقة الرحلات والجولات المختلفة الى قامت بها فى مختلف مدن وقرى الصعيد، مشيرة إلى أنها تقوم برحلات طويلة إلى مصر لتستلهم من الطبيعة الخلابة أعمالها الفنية.