لم يعد هذا الفضاء الصامت المظلم يخيفنا نحن البشر كما كان يخيف الأديب الفرنسي باسكال، لقد أخترق الإنسان صمت الفضاء وسبح فيه ، وتجول بين كواكبه ، لقد سقط الخوف من المجهول ، والخوف يفرغ الحياة من معناها ، ويضعف مقاومة الإنسان لكل التحديات، وأزعم اننا قادمون على اختراق عالم التاريخ والماضي ، ونعرف أن عبيد الماضي لا يصنعون المستقبل ، بل دعاة الإبداع والتجديد والتطور الذين يملكون شجاعة وإرادة للتقدم ، لقد ظل الاعتقاد بأن الشمس تدور والأرض ثابتة ، وأثبت العلم العكس تماماً ، وأن الشمس ثابتة والأرض تشبه حبة رمل على شاطئ الكون ، وظل المحيط الأطلسي بحراً للظلمات تسكنه العفاريت حتى عبره الإنسان وهزم الخوف واكتشفت الأرض الجديدة ، وأزعم أن الإنسان بحاجة إلى اختراق التاريخ والماضي، ليست هذه دعوة لإسقاط الهوية أو العبث بالثوابت والمقدسات، فالهوية بعض من نسيج كيان الشخص البشري، والثوابت الإيمانية ميراث الروح والضمير لن تمسها غربلة التاريخ والتجول في سراديبه التي أخفت كثيراً من الأساطير والخرافات واستعبدت ضمائر الناس ويالهول ما يكتشفه الإنسان يوماً بعد يوم من زيف شخصيات أو حكايات لا تمت للحقيقة بصلة بل مازالت حتى اليوم تجارة الغيب والدجل والسحر رائجة تبشر بها بعض وسائل الإعلام تتخذ من الجهل والفقر والألم منبتاً خصباً ، وأزعم أن التحديات القادمة خلال هذا القرن ، هي البدع وانتشار المذاهب وصراع الحقائق مع الأباطيل التي تفجرها عقول مريضة شرقاً وغرباً. إن من أخطر ما وقع فيه الإنسان المعاصر أنه محاصر بين حضارة كاسحة هدفها المتعة والمال وقد حولت الإنسان إلى آلة للإنتاج سلبته معنى الحياة وقيمها الروحية السامقة التي تنتشله في الأزمات ، وبين تيار يحّن إلى الماضي ويسجن اتباعه فيه دون رؤية للمستقبل ، في القرن التاسع عشر أشاع نيتشه في كتابه «الله مات» ولا حاجة لنا للإيمان، وفي القرن العشرين أشاعوا أن الإنسان قد مات لأنه أصبح آلة، وانتقل من العبودية وتجارة الرق في الماضي إلى العبودية للمصانع الضخمة والإنتاج الوفير وفقد إنسانيته ، وكان رد الفعل عند الشعوب المغلوبة على أمرها العودة إلى اجترار الماضي والتحصن فيه أنها عبودية من نوع آخر ، فكيف الخروج من هذا المأزق ؟ إن في أعماق الإنسان بذرة قد يقول عنها الطب جينات ، لا تموت هي الرغبة الملحة والعطش المتصل للبحث عن «الله» عن النور، عن السلام ، فلم يخلق الإنسان لقيطاً في الفضاء، بل هو مخلوق من خالق قدوس، محب واستقرار الإنسان وتوازنه أمر لن يتحقق إلا آمن بخالقه ، واتحد بوصاياه ، وشرائعه وعاش مؤمناً حقيقة لا زيفاً، واختبر معنى هذا الرباط المقدس بينه وبين من خلقه ، ولذلك فالبشرية في أشد العوز إلى رجال أصحاب رسالة ودعوة ممتلئين يقيناً برسالتهم لا أصحاب مهنة استرزاق، العالم في حاجة إلى من يسقي النبتة الروحية في كيان الإنسان ليس بالعنف والوعيد بل بأجمل الكلمات وأرق الدعوات ، هذه هي إرادة التجديد، ليس عبثاً بالمقدسات ، ولا زيفاً في الخطاب، ولا تجريجاً لإنسان ، ولا استعلاء على أحد، أو تحقيراً لفكر بل اسهام في تنوير العقل والقلب والضمير، من يحمل رسالة التجديد لابد من أن يبدأ بنفسه أن يجدد ثقافته وفكره ، أن ينظر إلى الإنسانية كحقل إلهي وأن يؤسس تجديده على أمور نشير فقط إلى ثلاثة منها : 1- غربلة الذاكرة فقد تزدحم الذاكرة بأمور من الماضي كان يرفضها وبالرغم من ذلك ترسخت فيها وسادت على الوجدان وتحولت إلى ما يشبه الاسطورة أو المقدسات ، إن الخطوة الأولى للتجديد زتنظيف الذاكرةس . 2- إنسانية الدين والإيمان ، وغاية القيم الروحية أن ترتقي بالإنسان وأن تسمو بالحياة ومعناها ، أن تطهر الفكر واللغة والأسلوب والسلوك ، إن القيم الروحية ليست بضاعة تحتاج إلى تسويق أو دعاية فالحقيقة تثبت الحقيقة والفضيلة تتوهج بالممارسة لا بالبلاغة وهي ليست زأيديولوجيةس تواجه المادية والإلحاد والإنحلال الأخلاقي بل هي أسمى من ذلك كله ، أنها نور إلهي يشع من خلال المؤمن الحقيقي دون ضجة أو صخب أو عنف، إن الله ليس في حاجة إلى محامين بل إلى أصحاب رسالة . 3- نسينا في غمرة زحام الأفكار والنظريات معنى الرحمة الإلهية اللامتناهية، إن الله يسمح للشمس أن تسطع في بيوت المجرمين والأشرار والملحدين ، إن رحمته تسبق عدله ، فلماذا يقسو الإنسان على الإنسان ، ولماذا ينصب الإنسان نفسه قاضياً على الضمائر والله قد وسعت رحمته لخلائقه كافة . نعم للتجديد ، وقبل التجديد نعم لمن يحمل رسالة التجديد يزرع الأمل ، والمحبة والسلام . لمزيد من مقالات د. الأنبا يوحنا قلته;