في أدبيات التحليل السياسي يقولون دائما »الشيطان يكمن في التفاصيل«، وتلك مقولة صحيحة إلي حد كبير. ولقد قفز إلي ذهني هذا المعني بعد متابعتي لزيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي ولقاء القمة الذي جمع بينه وبين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض يوم الإثنين الماضي وكذلك المباحثات التي جرت بين الوفدين المصري والأمريكي برئاسة الرئيسين، وأيضا التي جرت مع المسئولين في الإدارة الأمريكية. ولا أريد هنا تكرار الايجابيات التي تمت والتصريحات الصريحة والواضحة التي جاءت في كلمتي السيسي وترامب، لكني فقط أود التركيز علي نقطتين مهمتين جدا هما: عدم الافراط في التفاؤل أو في التشاؤم.. فلا مصر ستجد حلا شاملا لكل مشكلاتها الوطنية والقومية.. كما انها لن تصبح أداة امريكا في المنطقة تحقيقا لمصالح واشنطن! وانما ستكون العلاقة ندية علي أسس من الاحترام المتبادل وتقدير كل طرف لموقف وظروف الآخر. ومن هذا المنطلق ستجئ تفاصيل الاتفاقات والتوافقات المهمة المبشرة بالخير التي أعلنها الرئيسان. ومثلا.. فاذا قيل ان الدعم والتعاون في المجال العسكري سيصل إلي درجة غير مسبوقة، فإننا نسعد بهذا ونهلل دون الدخول في التفاصيل، لكن من المهم الإشارة إلي ان ذلك ينبغي ان يكون في ضوء الاحتياجات المصرية.. وليت يشمل تصنيع بعض الأجزاء أو المعدات أو قطع الغيار في المصانع الحربية المصرية التي أثبتت قدرتها وجدارتها. وإذا كان الكلام دقيقا وحساسا في المجال العسكري، فإنه لا يكون كذلك في المجالات الأخري الاقتصادية في ميادينها المختلفة: الصناعية أو الزراعية أو الخدمية.. وسواء كانت استثمارات أمريكية في مصر أو مشروعات مشتركة أو تجارة متبادلة، فقد آن الأوان ألا نستورد: المصنع «بنظام تسليم مفتاح».. كما لا يجوز أن نستورد المعدات والأجهزة بنفس النظام أو مفككة إلي أجزاء فلا يكون عليها إلا رسوم جمركية زهيدة ثم نجمعها هنا وندعي أننا نصنعها.. ولكن لابد في هذه وتلك ان يكون الاستيراد مصحوبا بشروط، أهمها نقل التكنولوجيا والتصنيع في مصر تدريجيا ليكون التصنيع مصريا خالصا بتكنولوجيا مصرية وأيد مصرية خلال فترة من خمس إلي عشر سنوات.. حسب نوعية كل منتج، ويتصل بهذا انشاء منطقة حرة للتجارة بين مصر والولاياتالمتحدة..وانشاء مناطق حرة للصناعة، مع اغراء وهذا مهم جدا , وإذا كان ما سبق وقد استعرضناه في عجالة قد تم الاتفاق علي أساسياته في لقاء القمة، فان تفاصيله التي يكمن فيها الشيطان ! هي مسئولية القطاع الخاص الذي سيستفيد من حصاد النتائج وعلي يديه ستتحول إلي برامج تنفيذية وتعاقدات عملية، ومن ثم فإننا نرجو الجانب المصري ممثلا في شركات ورجال الأعمال، ان يكون علي مستوي الطموحات الوطنية بعد ان أنضجته تجارب السنوات السابقة، ويدرك يقينا ان مصلحته الخاصة لا تنفصل عن المصلحة العامة، وأن استمرار مكاسبه في استمرار قوة الاقتصاد الوطني وفي استقرار المجتمع بتنمية وجودة انتاجه والقدرة علي تلبية احتياجاته والتصدير الذي هو مصير وغير ذلك مما يؤدي إلي تحسين الحياة وترقية مستوي المعيشة فيصبح الشعب كله حاضنا لقطاعي الأعمال العام والخاص، مؤمنا اردهاره وثماره تتساقط علي الجميع من خلال عدالة متوازنة.. وهذه علي أي حال قصة أخري! ولكن.. اتصالا بالموضوع نفسه فإن علي الذين بدأوا فعلا في الاعداد لتنشيط دورهم في التجارة المتبادلة بين القاهرةوواشنطن إدراك انه ليس معقولا أن يبلغ حجم هذا التبادل الآن أكثر من خمسة مليارات دولار سنويا ولا يكون نصيب الصادرات المصرية أكثر من مليار ونصف المليار أي نحو الربع تقريبا! وهنا.. فإننا نبادر برفض ما قد يقال من انه ليس لدينا ما نصدره! فإن »الامكانات« موجودة لدينا.. والمهم كيف نتعامل معها ونجعلها سلعة تنافسية بل تتفوق علي غيرها والمشكلة فيما نري ان بعض من يدخلون في نطاق »رجال أو سيدات الاعمال ليسوا مؤهلين لأداء دور اقتصادي حقيقي بقدر ما هم ينتمون إلي نظرية: «اكسب .. واجر!» ومثلا فإن بعضهم يمتدح ويطالب بالتوسع فيما يسمي اتفاقية «الكويز» بين مصر والولاياتالمتحدة، واسرائيل .. وهي ببساطة تنص علي فتح السوق الامريكية أمام الانتاج المصري بشرط ان تكون اسرائيل شريكة فيه بنسبة خمسة وعشرين في المائة.. سواء بالخامات أو التصنيع أو التمويل.. وبهذه الطريقة جري تصدير كميات من النسيج والملابس الجاهزة.. ولم يكن ذلك حقا وعدلا. ولعلي لا أكشف سرا.. فان البعض يعرف ان عددا محدودا كان يحتكر العملية هنا.. وكانت له اتصالاته المكتومة مع مكتب إسرائيلي بعلم الجانب الاسرائيلي وكان يحصل من الجانب المصري علي عشرة في المائة نقدا مقابل اعطاء شهادة موثقة بأن اسرائيل أسهمت بخمسة وعشرين في المائة من الانتاج! وهذا النظام وإن كان يحقق ربحا إلا أنه غير أخلاقي فضلا عن الربط المجحف بين مصر واسرائيل.. وكان يتحتم علي المصريين المطالبة باتفاق مباشر مع واشنطن وانشاء منطقة حرة تضيف إلينا وتحقق الفائدة لهم. وهذا نظام مطبق بين الولاياتالمتحدة ودول أخري!! وبعد هذا كله والتفاصيل عديدة ينبغي ان نحرص علي تفعيل المبادئ الأساسية التي يعتنقها والحمد لله الرئيس عبدالفتاح السيسي ومنها: التعامل بندية واحترام والتوازن في العلاقات الخارجية وتقدير من وقف ويقف بجوارنا.. فان النتائج المهمة التي نتجت عن قمة واشنطن والتي تكرر الأمل في تفعيلها.. لا ينبغي ان تنسينا مواقف دول دعمتنا سواء في مجال التسليح مثل روسيا وفرنسا وغيرهما.. أو في مجال التنمية الصناعية والبناء الاقتصادي مثل المانيا والصين وغيرهما.. علاوة عن الأشقاء العرب، ونحن معا في قارب واحد.. نواجه أعاصير وعواصف هذا الزمان. لمزيد من مقالات محمود مراد