كعادة المصريين.. تبقى دائما كلمات لا يتذكرها المرء إلا على درجات السلم أو على عتبات الأبواب.. وأنا فى انتظار المصعد فى الدور الحادى عشر فى مبنى الأهرام بعد انتهاء الحوار الذى اجريته عام 1997 مع المفكر الكبير السيد يسين بمناسبة حصوله على جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعىة.. تذكرت أننى لم أقل له مبروك.. فقد كان كل همى كيف أقول له أننى لم آت لأناقش أفكاره.. بل أتيت لأناقش أفكارنا.. وأقصد بأفكارنا.. أفكار الناس العاديين.. وأيضا كيف أقول له ان رجل الشارع لا يعرف السيد يسين الباحث.. العالم.. المفكر.. المثقف كما يعرف نجوم وكواكب السينما.. ومن منهم تزوج.. ومن منهم طلق.. أو كما يعرف لاعبى كرة القدم.. ومن منهم أصيب فى ركبته.. ومن منهم أصيب فى ساقيه. لم يعترض على أى سؤال.. وابتسم حين قلت له: هناك كلمات تبادلها المثقفون.. وأنت واحد منهم.. تبدو كلوغاريتمات مثل التفكير المنهجى.. والحداثة.. ومابعد الحداثة.. والكوكبية.. والبنائية.. وبالتالى هناك اتهام موجه لكم بأنكم تكتبون لتقرأ لكم الطبقة المثقفة.. أى أنكم تكتبون لبعضكم البعض.. متجاهلين الجمهور العادى.. رد بهدوء: »لقد وصلنى اليوم بمحض المصادفة خطاب من قارئ عادى يعمل موظفا فى الهيئة العامة لمحو الأمية وتعليم الكبار فرع الدقهلية يتحدث فيه عن متابعته لمقالاتى وأبحاثى.. أنه واحد من طبقة القراء التى تضم الباحثين العلميين والمثقفين والقراء العاديين المتهمين الذىن أحرص من أجلهم على تقديم تعريفات دقيقة لكل المفاهيم التى تبدو كما تقولين غامضة«. واصلت الاتهامات فى صيغة أسئلة حين قلت إن المثقفين يعيشون فى أبراج عاجية.. فهل تعتبر نفسك مثقفا مندمجا بثقافة الشعب؟.. قال: »لا تنسى أننى باحث فى علم الاجتماع.. أجريت عشرات البحوث الميدانية فى الريف والحضر.. أنا لست باحثا مكتبيا.. ولا مثقفا منعزلا فى برج عاجى.. إننى مثقف مندمج بعنف فى الثقافة المصرية بحكم نشأتى الاجتماعية.. وبحكم عملى كباحث.. وبحكم اهتماماتى الفكرية والسياسية لتحسين نوعية الحياة فى المجتمع المصرى.. أتابع متابعة دقيقة الإنتاج الأدبى وتجليات الثقافة الشعبية.. أعرف معرفة شخصية أبرز المبدعين فى مختلف المجالات«. وأنا أعيد قراءة حوارى معه.. توقفت أمام اجابته على سؤال عن ظاهرة الإرهاب.. وهل تعنى من ضمن ما تعنى أن المثقفين لم يستطيعوا أن يصلوا إلى عامة الشعب ولم يلعبوا دورا للحد من هذه الظاهرة المخيفة؟ قال: »خطورة هذه المشكلة تكمن فى وجود 60% من الأميين.. من هنا يأتى جذر من جذور التطرف والتسطيح الفكرى.. لأنه فى الوقت الراهن يهيمن على تشكيل العقل الشعبى جماعات من انصاف المتعلمين وأيضا المتعلمين المتطرفين فكريا.. وهؤلاء يسيطرون على اتجاهات الملايين من البسطاء.. ويصبح التحدى هل يستطيع المثقفون أن يصلوا إلى هؤلاء الملايين.. وكيف يمكن استخدام النظام التعليمى والإعلامى والأدبى والفنى لتغيير اتجاهات البشر ودفعهم نحو التقدم«. هنا سألته هل نظام التعليم بوضعه الحالى مع المنظومة الثقافية والإعلامية ينتج مثقفا؟.. فقال: »نظام التعليم فى الوقت الراهن يمر بنكسة شديدة.. لأنه مع تعدد المناهج وطولها واعتمادها على التلقين لا تتاح الفرصة إلا فيما ندر لتشكيل ما أسميه بالعقل النقدى.. ويلعب الاعلام دورا سلبيا فى هذا المجال بتشجيعه انتاج مواد تافهة.. لا تبنى العقول.. ولا تساعد المواطن على الألمام بمشكلات مجتمعه وتحديات عصره«. حين انتهى الحوار.. الذى استغرق نحو ساعتين.. بسبب دخول وخروج المهنئين.. وكثرة رنين التليفون.. شعرت أننى كنت أمام رجل ممتلىء بالحماس والحيوية.. مهموم حتى النخاع بمشكلات ومستقبل وطنه.. راقىا رقيا شديدا.. عطوف.. ونبيل.. زاهد.. فارس.. نزيه.. متواضع.. متواصل ومتلاحم مع زملائه وتلاميذه. أستاذ السيد يسين.. أيها المفكر الكبير.. أنت رجل عظيم ونادر.. سنفتقدك ونفتقد كتاباتك.. تحية لك ووداعا. لمزيد من مقالات عايدة رزق