توالت القرون المتعاقبة على الأمة وبناؤها متماسك - رغم تعدد مذاهبه وتنوع مسائله وتباين فروعه واختلاف أعلامه- له خطته المرسومة وخصائصه المعلومة وأعلامه الأعلام وفق طبقات مرتبة فى سلسلة علمية مترابطة ومناهج مدونة ومؤلفات متداولة وأصول مؤصلة وقواعد راسخة وفروع مستخرجة. ورغم وضوح ذلك للعيان وتحققه على وجه مبهر، فقد ظهرت على السطح جملة من الظواهر المتتالية التى تتعمد بشتى السبل ومختلف الوسائل توجيه الاتهام إلى المذاهب الفقهية، ووضْع المذهبية فى قفص تخلف المسلمين ورجعيتهم، حتى تداعى عليها من كل جانب تيارات واتجاهات لا تدخر وسعًا فى لمز هؤلاء الأئمة الثقات والطعن فيهم وتجريحهم والاستخفاف بهم، فضلا عن الحكم على الأمة بالكفر والفسق والبدعة. لقد انطلق أصحاب دعوة اللامذهبية من عدم وجود المذاهب فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم والقرون المشهود لها بالخيرية، فقرروا أنها أمر مُحْدَث وبدعة ضلالة، بل اعتبروا المذهبية أخطر بدعة وردت على الأمة منذ قرون، لأنها بزعمهم صرفت الناس عن الكتاب والسنة إلى الأخذ بالآراء البشرية وتحكيم الرجال فى شرع الله عز وجل. ولا ريب فى أن هذه التشكيكات التى تطرح على العامة - ولا تحال إلى علماء الأمة والمجامع والهيئات العلمية - تُعَدُّ مصدرًا خطيرًا لنشر الفتن والتشويش على المسلمين فى أمور دينهم وشئون دنياهم، فضلا عن إلصاق صفات الضلال والابتداع والكفر بعلماء الأمة ومجدديها. ولا غرو، فذلك مبلغهم من العلم، وهو بلا شك كلام مزخرف بالباطل من أوله إلى آخره؛ فإنه لا يوجد واحد من المسلمين يتخذ أقوال المجتهدين لذاتها، على أنها حجة على الناس تثبت بها الأحكام الشرعية كأقوال الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، إنما هى كشف عن الأحكام المستندة إلى الأدلة المعتبرة شرعًا بعد بذل الجهد فى استقرائها وتمحيص دلائلها مع العدالة والاستقامة فى الظاهر والباطن، فى العمل والفهم وسعة الاطلاع والعناية بضبط الشرع وحفظ نصوصه. وكما حثَّ الله تعالى أهل العلم والفقه على الاجتهاد فى استخراج الأحكام الشرعيَّة من الأدلة؛ فقال تعالي:«وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ«[التوبة:122]، أوجب على القاصرين عن رتبة الاجتهاد اتِّباعهم والسعى فى تحصيل، ما يؤهلهم لبلوغ هذه الرتبة الشريفة على سبيل الكفاية حسب استعدادهم فى العلم والفهم، بل أوجب على العامَّة الرجوع إلى العلماء والأخذ بأقوالهم حتى يرشدوا ويتحققوا بالهداية، حيث قال تعالي:«وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِى الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ«[النساء:83]، وقال تعالي:«فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ«[النحل:43]. إن القول ببدعية تقليد المذاهب المتبوعة هو الزور والبهتان، ألم يعلم هؤلاء أن إتباع النبى صلى الله عليه وسلم فى زمنه المبارك حصل بطريق مباشر، كما حصل بواسطة الأمراء والولاة والقضاة الذين كان صلى الله عليه وسلم يبعث بهم إلى الناس فى سائر البلاد حتى يُعلِّموهم أمور دينهم. كذلك كان التقليد شائعًا فى عهده صلى الله عليه وسلم حيث كان الصحابة يفتون فى حضرته الشريفة والناس يقلدونهم ويعتمدون على أقوالهم ولم ينكر النبى صلى الله عليه وسلم ذلك عليهم، اللهم إلا على من لم يستكمل علمه فأفتى بما لا يعلم صحته جاعلا إثم المستفتى عليه، كإنكاره على من أفتى برجم الزانى البكر، وإنكاره على من أفتى باغتسال الجريح حتى مات. فهل كان ذلك تحاكمًا إلى الطاغوت أو إعراضًا عن هدى الكتاب وطريق السنة وخطة الإسلام؟ فيا ليت هؤلاء يفقهون حديثًا، ويدركون أنهم ينزعون عن الشريعة أهم خصائصها، وهى أنها علم وبناء معرفى تراكمي، من لدن علماء السلف إلى علماء الخلف المعتبرين. لمزيد من مقالات د. شوقى علام - مفتى الجمهورية