من أشد الدعاوى خطرًا على هذه الأمة الخالدة ما يمكن تسميته ب »اللا مذهبية«؛ فإنها سبيل مباشر لبث عوامل الحيرة بين الأمة، وطريق ممهد لنشر الاهتزاز والسطحية بين عموم أفرادها، فضلا عن ترسيخ انقطاع صلة العلم والخُلُق بين اللاحق والسابق تحملًا وأداءً وبلاغًا؛ وذلك خطأٌ عظيم، وخطب جسيم. والمذهبية نسبة إلى مذهب بفتح الميم، بمعنى الطريق ومكان الذهاب، وهو مصدر ميمي يقصد به في الاصطلاح »المفعول«، حيث يراد منه: الأحكام التي ذهب إليها إمام من الأئمة في علم من العلوم، وتطلق أيضًا على عملية الاتباع والتقليد لإمام معين من العامي أو من العالم الذي لم يتوافر فيه الاجتهاد؛ سواء استمر هذا الاتباع لإمام محدد أو تحول من واحد إلى آخر، واللا مذهبية عكس ذلك تمامًا. ولا يعقل شرعا ولا طبعا أن يفرض على جميع الناس التخصص في كل هذه المجالات؛ حتى تلبى حاجتهم وتقضى مصالحهم؛ والله تعالى يقول:«لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا«(البقرة: 286)، ولذا وجب »الاجتهاد« على البعض وهم أهل الذكر ورجال الصنعة، ووجب »التقليد والسؤال« على الباقين، وفي ذلك يقول الله تعالى: »وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ«(التوبة: 122). ولا ريب أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم في حياته كان مرجع الأحكام الشرعيَّة وبيان الحلال والحرام، ومُعَلِّمًا أمينًا للأمة طرق هذا الوحي المنزل ومناهج فهمه وسبل الاستنباط منه على وجه معجز، ثم حمل ذلك من بعده الصحابة والتابعون رضي الله عنهم. ثم ازدهر الفقه ونما في عصر مذاهب الأئمة الأربعة (أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل رضي الله عنهم) ومن بعدهم حتى يوم الناس هذا؛ فشُرحت الأحكام وأُفتي في المسائل والقضايا والنوازل والمستجدات، بالرجوع للأدلة الشرعيَّة، مع ضبط الفقه بضوابط وقواعد، وبيان سبل الاجتهاد والتقليد، وإنارة السبيل في أوجه التعامل مع الأدلة نقلا وتوثيقًا وفهمًا وتطبيقًا، حتى صارت هذه العلوم صناعة لها رجالها وسماتها ومرتكزاتها ومنطلقاتها وقواعدها وضوابطها. إن المذهبية تعتمد على اجتهاد إمام معين معروف وفق أسس معلومة ومقعدة تأصيلًا وتخريجًا فقهًا وإفتاءً وقضاءً في جميع الأسئلة والمسائل التي يدور في فلكها المسلم والأمة، مع إلمام دقيق بالواقع وتحقق أصيل بعلوم الآلة والمقاصد، وذوق وفهم عالٍ، والتزام كامل بحقوق الله تعالى وحقوق عباده، وقد كان لكل مجتهد ومذهب أصوله وقواعده، وإن كانت تتلاقى في الأكثر، وتفترق في الأقل، لكنها لا تخرج عن مظلة الشريعة. وذلك حاصل على وجه مبهر عبر تاريخ الأمة الإسلاميَّة وعصورها المتعاقبة، فكان عاملا أصيلا في استقرار المجتمعات والنهوض بدعائم الأوطان، وقطع أي سبب يؤدي إلى الفساد أو الفوضى أو التخبط أو الاضطراب مع الأخذ بيد الناس نحو التحلي بالقيم والأخلاق الفاضلة بما يسهم بشكل إيجابي وفعَّال في مسيرة الأمة، فضلا عن المشاركة في مسيرة الإنسانية، نحو التقدم والحضارة ورفاهية الإنسان وعمارة الكون. وفي المقابل نجد أن أهل التطرف وتيارات التشدد ارتضوا لأنفسهم مناهج مبتدعة لم يؤسس لها الوحي الشريف، وتجاهلوا ما جرت عليه الأمة ودرجت عليه المدارس العلمية في بلاد المسلمين شرقًا وغربًا من اعتماد الاجتهاد المنضبط، وقام هؤلاء بالتشويش على المذاهب العلمية الممتدة والمؤسسات التعليمية الكبرى. ثم نجد بعضًا آخر يُطلق مقولات الكفر والضلال على الأمة: عامة وأئمة، مقلدين ومجتهدين؛ حيث يزعمون أن: »تقليد الأئمة الأربعة كفر«، و«التمذهب بمذهب معين ضلال«، بل ينعتون الأمة بأنهم اتخذوا أئمتهم أربابًا من دون الله، وكلها دعاوى فاسدة تسعى للنيل من وحدة الأمة وتماسكها، وقطع اتصال العلوم بين أجيالها جيلا بعد جيل، وفساد ذلك ظاهر لكل ذي عينين، وما يعقلها إلا العَالِمون. لمزيد من مقالات د. شوقى علام