يبقى الفكر النهضوى توفيقيا بالتعريف، كونه يبتغى النهوض بأمة لديها تراث عريق تتجذر فيه، وحاضر بائس يضغط عليها ترغب فى الإفلات منه، بينما تواجه عالما زاخرا بالوعود ترغب فى اللحاق به، ما يفرض عليها الجمع بين مكونات ثقافية تنتمى لأزمنة مختلفة. ولم يكن ديكارت، أبو الفلسفة الغربية الحديثة، استثناء من ذلك المنزع التوفيقى بين وعى حديث وإيمان موروث، فكانت عقلانيته المثالية، التى انطلقت من الله كمبدأ للوجود، فيما ادعت أنها تبحث عنه، إذ لم يتصور الرجل إمكانية المعرفة إلا تأسيسا على الحقيقة الإلهية، ولذا كان الشك الديكارتى منهجيا لتأكيد يقين قائم وليس فلسفيا للبحث عن حقيقة مجهولة. فى السياق العربى كان محمد عبده توفيقيا بهذا المعنى نفسه، فثمة أصول ثلاثة من خمسة يرى أن الإسلام يقوم عليها، استند إليها الإمام فى صياغته الثورية للعلاقة بين العقل والنص، مؤكدا أن النص لا يمكنه أن يتناقض مع العقل، فإذا ما تبدى تناقضا كان بالضرورة "ظاهريا"، يفرض تحكيم العقل فيه، ليس لأن ثمة خطأ فى النص ولكن لأن فهمه قد استغلق على الذهن، ومن ثم وجب التأويل بحسب قواعد اللغة العربية، حتى لا نقع فى آفة التلوين. ومن ثم لا تبدو مركزية العقل استعلاء على النص أو رفضا له، بل وسيلة فهم يتم من خلالها تجاوز ظاهره إلى باطنه، والولوج إلى قلب الحكمة منه. هكذا اعتمد الإمام العقل أصلا من أصول الإسلام، ولكن العقل لديه ظل توفيقيا، يعمل كأداة استدلال على الحقيقة الإلهية، وليس كمنتج لحقيقة جديدة (إنسانية) عن العالم، وهى سمة كل تفكير دينى كلامي، يرى للحقيقة مصدرا واحدا، يمكن تأويله أو تفسيره، ولكن دون الخروج من فلكه العام، وإلا كنا أمام تفكير فلسفى خالص. إنه الفارق الأساسى بين نهج ابن رشد، مثلا، القائل بمبدأ ثنائية الحقيقة، سيرا على الطريق الفلسفى الأرسطي، وبين المعتزلة الذين ساروا حثيثا على طريق الفكر الكلامي، تفتيحا لأفق النص القرآنى إلى أبعد مدى ولكن دون الخروج عن فضائه. هذا النهج يمكن وصفه بالعقلانية نعم ولكن بحذر شديد يفرض علينا توصيفها ب "التوفيقية"، وهو أمر يمكن تفهمه كخطوة مهمة على طريق الاندراج التاريخى فى صيرورة العقلانية الحديثة، بما هى علمية وشكية وتجريبية، تنبع من أفق أنسانى مستقل وإن لم يكن متناقضا، بالضرورة، مع الأفق الإلهي. فى سياق تلك النزعة التاريخية يتجلى كيف كان التشابه بين عقلانية محمد عبده التوفيقية، وبين عقلانية ديكارت المثالية، عرضيا وطارئا، فسرعان ما اختلفت المسارات والمصائر بينهما بحسب البيئة الحاضنة لهما، ففى السياق الأوروبى تطورت العقلانية المثالية إلى تجريبية ووضعية، بجهود الفلاسفة الذين تابعوها. أما فى السياق الإسلامى فتولد عن العقلانية التوفيقية تياران متناقضان: أولهما تقدمى حاول دفعها باتجاه نزعة تجريبية حديثة، لكنه أجهض. وثانيهما رجعي، حاول إعادتها إلى نزعة صورية تقليدية، وللأسف فقد نجح. غير أن العقلانية الحديثة هذه تتوزع على اتجاهين مختلفين وإن كانا متكاملين، يشكلان معا روح التنوير. الأول يتعلق بالعقل النظرى الذى أنتج مناهج المعرفة العلمية الحديثة (التجريبية) وصولا إلى ذروتها الداروينية. أما الثانى فيتعلق بالعقل العملى الذى أنتج مفاهيم الحرية السياسية وصولا إلى غايتها (العلمانية)، والذى يندرج فيه كتاب «الإسلام وأصول الحكم» كمحاولة جريئة من الشيخ على عبد الرازق لتطوير عقلانية الإمام النظرية نحو أفقها العملي. إنه الاتجاه نفسه الذى سار فيه جون لوك، انطلاقا من عقلانية ديكارت النظرية، لينزع عن السلطة السياسية قدسية الحق الإلهي، ويجذر لها فى مفهوم العقد الاجتماعي، المعقود بين بشر متكافئين، بدافع مصلحى هو الخروج من حالة الطبيعة الهمجية إلى أفق مجتمع متمدين، يلتصق أعضاؤه معا بصمغ الإرادة الحرة، التى يحرسها القانون العادل بدلا من صمغ القوة العارية التى يمارسها بشر همجيون. لقد أراد الشيخ المستنير، انطلاقا من ذروة المشروع الإصلاحى لدى الإمام، تأسيس علمانية سياسية معتدلة، تقيم السلطة على أساس اجتماعى واضح، يخلو من ادعاءات القداسة، فيقول حاسما: «لم نجد فيما مر بنا من مباحث العلماء الذين زعموا أن إقامة الإمام فرض من حاول أن يقيم الدليل على فرضيته بآية من كتاب الله الكريم، ولعمرى لو كان فى الكتاب دليل واحد لما تردد العلماء فى التنويه والإشادة به». ويضيف جازما: «ليس القرآن وحده هو الذى أهمل تلك الخلافة ولم يتصد لها، بل السنة كالقرآن أيضا، قد تركتها ولم تتعرض لها». بل يصل بجرأة استدلاله، واستعراضه لمراحل صعود الخلافة وتدهورها، إلى تقرير أنها عقد يحصل بالمبايعة من أهل الحل والعقد لمن اختاروه إماماً للأمة بعد التشاور بينهم، تعبيرا عن الأمة، وعن مصلحتها، ما يعنى أصلها البشرى ومرجعيتها الدنيوية. انطلقت التيارات الرجعية لتفترس الرجل على النحو المعروف، بحجة علمانيته، وهى تهمة نقبلها بوصفها تقريظا للرجل، طالما فهمناها باعتبارها محض علمنة سياسية، تنحصر فى نظام إدارة الدولة والمجتمع، وتصوغ العلاقة الأفقية بين البشر/ المواطنين، ولم نفهمها كعلمنة وجودية، تمتد إلى المجال الأخلاقي، وتطول العلاقة الرأسية بين الإنسان والله. ورغم أن بعض المفكرين الذين أرخوا لفكر النهضة العربية، خصوصا د. عبد الله العروي، قد وضعوا الرجل ضمن أرباب التيار العلموى الذى أسموه (الليبرالي) فإننى لا أرى ذلك دقيقا، بل أضعه على رأس التيار النقدي/ التوفيقى الذى نمت بذرته فى مصر منذ العشرينيات وصولا إلى لحظة الذروة فى ستينيات القرن العشرين؛ لأنه وإن دعا إلى موقف ليبرالى ينطوى قطعا على «علمنة سياسية» لم يخطر بباله أصلا أفق العلمنة الوجودية، وما تمثله من رؤية مادية للعالم، ترفض أى حقيقة خارج إطار التجربة الحسية، وتتصور العلم دينا بديلا لأديان الوحي، فليرحم الله الشيخ الجليل، والمفكر المستنير. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم;