في مقال متميز بعنوان التقليد الألماني والعقلانية المؤمنة طرح المفكر صلاح سالم فكرة أساسية وهي أن المثالية الألمانية قدمت نموذجا جسر الهوة بين التنوير والميتافيزيقا الدينية وذلك علي خلاف خطاب التنوير الفرنسي مستشهدا لتأكيد أطروحته بأفكار فلاسفة العصر الحديث في ألمانيا مثل جوتولد لسنج وهيجل وأيمانويل كانط وماكس فيبر منوها في ذات الوقت عن مفهوم أساسي هيمن علي أطروحات لسنج وهيجل ألا وهو مفهوم العناية الإلهية.. إلا أن هناك إشكاليتان تجابهان تلك الأطروحة تتعلق الأولي بالتفرقة انطلاقا من بعد زمني وتاريخي بين نوعين من الفلسفة الفلسفة الحديثة التي تغطي الفترة ما بين1900/1600 م والفلسفة المعاصرة التي تغطي فترة ما بعد عام1900 م. أما الثانية فتتعلق بالفحص النقدي لأطروحات الفلاسفة المثاليين الكبار مثل هيجل وكانط والتي تشير إلي وجود نزعة عقلانية مادية بحتة ساهمت في تقويض الطابع المثالي لأطروحاتهما الفلسفية عبر تمدد أفكارهما وانتقالها من حيز الفلسفة الحديثة إلي حيز الفلسفة المعاصرة خصوصا وأن هذا التمدد قد ساهم أيضا في تأجيج صراع بين الأطروحتين يتعلق بالأساس بمفهوم العناية الإلهية بوصفه عنصرا أساسيا لتفسير التاريخ إيجابا بالنسبة إلي هيجل وسلبا بالنسبة للتيارات التي نشأت متمحورة حول تحطيم الأطروحة الهيجلية تأسيسا علي أفكار كانط مع الإشارة في النهاية إلي الموقع المتميز الذي احتلته الميتافيزيقا الإسلامية بفضل النص القراني المعجز الذي قوض الإشكالية المتعلقة بجدلية العلاقة ما بين مفهومي حرية الإرادة الإنسانية والعناية الالهيه والتي تحتل موقعا أساسيا في سياق هذا الموضوع.. فلو دمجنا الإشكاليتين وتحدثنا في البداية عن أطروحة هيجل ببعد نقدي سنجد أن هيجل برغم تأكيده علي مفهوم العناية الإلهية وخصوصا في محاضراته بشأن فلسفة التاريخ إلا أنه لم يتواني في تلك المحاضرات عن الإشارة إلي العقل باعتباره صائغا للحقائق التاريخية والروحية وهو ما يتطابق مع أطروحته الأساسية التي يتعاطي فيها مع العقل باعتبارها صانعا للعالم الذي لا يعد من هذا المنطلق ظاهرة مستقلة بذاتها فهذا التقديس للعقل وفر مقدمة منطقية ومعرفية لخروج أطروحات فلسفية مادية بحتة من رحم الفلسفة المثالية الهيجلية وعلي رأسها أطروحات كارل ماركس وفيورباخ اللذين تم تصنيفهما بوصفهما هيجليان جدد برغم الطابع المادي البحت المعادي للميتافيزيقا لفلسفتهما ثم يأتي بعد ذلك فيلسوف فرنسي معاصر مثل لوي ألتوسير ليتحدث عن ماركس الهيجلي القديم وماركس العقلاني العلمي الجديد محررا الأطروحة الماركسية مما تبقي من بعدها الهيجلي وهكذا فإن الأطروحة المثالية الهيجلية بطبعتها الفلسفية الحديثة تحولت عبر امتدادها الفلسفي والتاريخي إلي أطروحة مادية بحتة عندما انتقلت من حيزها الأساسي كفلسفة حديثة إلي حيزها الجديد كفلسفة معاصرة بفعل جهود لوي ألتوسير... وتلك نفس المشكلة التي واجهت الفلسفة الكانطية فعلي الرغم من النفحة المثالية الواضحة التي غلفت أعمال كانط وعلي رأسها تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق ونظرية الموندات وتفرقته ما بين الاستخدام الخاص للعقل والاستخدام العلني العام للعقل في مقاله الشهير( ما هو التنوير) إلا أن الكانطية بشكل عام جري كذلك صوغها من جديد في قالب مادي بحت معادي للميتافيزيقا عبر فلاسفة معاصرين مثل الفيلسوف الفرنسي ريمون آرون الذي قدم في كتابه فلسفة التاريخ النقدية إيمانويل كانط باعتباره أول فيلسوف حديث يجاهر بنقده للميتافيزيقا رابطا بين أطروحات كانط وأطروحات الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت مؤسس الوضعية المنطقية وأطروحات فلاسفة المدرسة التاريخية الألمانية وعلي رأسهم فيلهلم ديلتاي وجورج زيميل لتدشين فلسفة تاريخ نقدية يستطيع من خلالها تحطيم الميتافيزيقا المسيحية وهدم مفهوم هيجل المتعلق بالعناية الإلهية وهذا التأويل المادي لكانط لم يأت هو الأخر من فراغ بل أتي بفعل التناقض الأساسي ما بين فلسفة كانط المثالية في الأخلاق وفلسفة كانط المادية في المعرفة فالانجاز الأساسي لكانط تمثل في نظريته في المعرفة التي جسر من خلالها الفجوة ما بين فلسفة ديكارت المثالية ذات الطابع الميكانيكي وفلسفة التجريبيين الانجليز وعلي رأسهم جون لوك وديفيد هيوم وهو ما أخرج فلسفته في المعرفة من نطاق المثالية البحتة لأنها قد تحولت ببساطة إلي خليط من ميكانيكية ديكارت وتجريبية لوك وهيوم... ولعل الأمر اللافت للنظر في هذا الصراع الفلسفي المتمحور حول الطابع الميتافيزيقي لمفهوم العناية الالهيه هو الإسهام المهم للميتافيزيقا الإسلامية في هذا الصراع وهو أمر لم يلتفت أليه كثيرون فقد أشاد مؤسس الهرمنيوطيقا التاريخية فيلهلم ديلتاي في كتابة مدخل إلي دراسة العلوم الإنسانية بوعي العرب الكبير بالنقائض التي تخترق الفكر الميتافيزيقي وهو ما يجعل فكرهم يتحسس إمكانية تجاوز الميتافيزيقا والخروج منها أو علي الأقل إعادة تأسيسها فالعرب من وجهة نظر ديلتاي كان لهم السبق قبل كانط في اكتشاف تناقضات الميتافيزيقا وفي مقدمتها التناقض بين تصور الإله علي أنه قادر علي كل شيء ويعتني بالخلق عناية مباشرة وتصور حرية الإرادة عند الإنسان. وبرغم تلك الإشادة من ديلتاي إلا أنه وقع في نفس الخطأ الذي يقع فيه أي فيلسوف انطلاقا من أرضية عقلانية مادية بحتة ألا وهو النقد الجذري للفكر الميتافيزيقي ومن ثم اعتبار أن أيه منجز عقلي أو حضاري يجب أن يتحقق بالتمرد علي الميتافيزيقا الدينية وتجاوزها بالتأسيس لقواعد عقلية وأخلاقية وضعية جديدة ولعل ذلك هو جوهر عظمة وتفرد النص القرأني فعندما نحلل مفهومي حرية الإرادة والعناية الإلهية انطلاقا من القرآن الكريم نفسه سنجد أنه أسس لميتافيزيقا أخلاقية راقية دمجت ما بين المفهومين دونما إخلال بقيمة أي منهما فعندما نحلل واقعة تاريخية مثل قتل قابيل لهابيل التي وردت في سورة المائدة.. نجد أن قرار القاتل قابيل والقتيل هابيل جاءا بإرادة حرة فردية فنفس قابيل طوعت له قتل هابيل الذي رفض رد عدوان أخيه بمحض أرادته. وانطلاقا من تلك القصة القرآنية يؤسس القرآن لميتافيزيقا أخلاقية تؤكد قيومية الله علي عالمه وخلقه وهو ما يعني في النهاية أن الميتافيزيقا الإسلامية ممثلة في النص القرآني قد تجاوزت الصراع الذي مزق العقل الأوربي ما بين المثالية والمادية وما بين الوضعية والميتافيزيقا وما بين الحرية والخضوع للحتميات التاريخية ذات الطابع الفلسفي.. لمزيد من مقالات طارق ابو العينين