عدت من مدينة الحمامات بتونس الشقيقة، حيث دارت وقائع ندوة «إصلاح المجال الديني» إلى القاهرة حيث وقعت حوادث إرهاب الجمعة الماضية، فى الهرم بالجيزة وفى محافظة كفر الشيخ ثم تفجير الكاتدرائية الأحد. المفارقة أن حديث الإصلاح الدينى لا يتوقف فى أى بلد عربي، ولكن وقائع العنف الأصولى تسبقه فى كل بلد عربي، الأمر الذى يشير إلى خلل قائم فى طبيعة تصورنا لمفهوم الإصلاح الديني، أو فى مدى جديتنا للقيام به، على نحو ما وشت به وقائع الندوة التى رعاها مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت والمعهد السويدى بالإسكندرية. كانت تيارات الفكر العربى جميعها ممثلة. ورغم أن تيارا توفيقيا عريضا عبر عن نفسه فى أعمالها، فقد تبدى واضحا أن ثمة طرفين متناقضين يصعب تلاقيهما على حل وسط تاريخي. مثل أولهم د.العوا الذى تبنى موقفا محافظا إلى حد بعيد، رفض معه الحديث عن إصلاح دينى بالمعنى الذى جرى فى الغرب، لأن الإسلام لم يكن كنسيا ولا ثيوقراطيا فى أى وقت، ومن ثم ليس بحاجة إلى استعارة مفاهيم من خارج بنيته العقدية أو فضائه الفكري، فلا إصلاح دينى كما تنشد الندوة، ولا علمانية سياسية وتنوير روحى كما دعا كاتب هذه السطور فى محاضرته، بل فقط يمكن الحديث عن «التجديد» وعن «الوسطية» فيما تبدى موقف سلفى، عاجزا عن الاندراج فى تيار التاريخ الإنساني، أصر عليه الرجل ودافع عنه بصرامة رغم بشاشته الإنسانية المعهودة. ومثل ثانيهما د. عزيز العظمة، المفكر السورى المرموق، الذى قدم بحثا عن الخبرة الإسلامية الحديثة (النهضوية) مع الإصلاح الديني، ألقاه نيابة عنه الباحث المغربى د. محمد الشيخ، حيث كرر الرجل أفكاره المنتمية إلى فضاء العلمانية الراديكالية، منتقدا جل المفكرين النهضويين، خصوصا الإمام محمد عبده الذى رآه مجرد عقل توفيقى متردد، لم يستطع أن يحسم موقفه من قضية العقلانية، فرحل دون أن يترك أثرا. ولم يكتف بذلك بل ذهب بقضية تاريخية النص الدينى إلى حدود متطرفة، فلم يتوقف عند حدود النص التراثى الذى أشاركه الاعتقاد فى تاريخيته كاملا، وضمنه السنة النبوية، عدا تلك الشارحة للعبادات، ولا عند حدود تأويل المتشابه من آيات القرآن فقط فى ضوء معطيات العصر وقوانين العقل، كما ذهب خصوصا ابن رشد ومحمد عبده، بل إلى ضرورة تأويل كل شئ فى القرآن الذى بين أيدينا، والذى لم يعتبره العظمة وحيا إلا بالمعنى العام الذى يحمله والمفاهيم الكلية التى ينطوى عليها، والتى قام الرسول الكريم نفسه بمهمة صياغتها فى منظومات كلامية وبنى دلالية، متأثرا بالبيئة الجاهلية (التاريخية) التى عاش فيها، وهو ما يجب تجاوزه الآن. وهنا علق كاتب هذه السطور مؤكدا أمرين: أولهما هو أن ثمة فارقا كبيرا بين مفهوم تاريخية النص، الذى يعترف بوجود النص أصلا كحقيقة ورسالة ذات مضمون، يجرى إعادة تأويله ليبقى أوثق ارتباطا بحركة الزمان وحياة المؤمنين، ما يحيل إلى النزعة النسبية فى فهم حقيقة النص والتاريخ معا، وهو أمر نراه مقبولا وضروريا. وبين مفهوم إعدام النص، الذى لا يعترف بوجود النص (جوهريا) وإن لم يصرح بذلك بل يدور حوله، فالتاريخية هنا تتعلق بعملية تكوين النص نفسه وليس فقط مسألة فهمه، إنه من صنع بشر ابتداء، ومن ثم يمكن تجاوزه كليا، وهى عين النزعة النسباوية التى لا تقر بوجود حقائق مطلقة تتعالى على التاريخ، فلا أخلاق أبدية ولا قيم كونية، بل مجرد نزعات ذوقية تتسم بالنسبية القصوي، والذاتية الفائقة، الأمر الذى يجعل النص القرآنى إنسانيا بالكلية، كأى نص أدبى يخضع لمقولة بارت عن موت المؤلف وحياة القارئ. وثانيهما هو أن كل فكر نهضوى يبقى توفيقيا بالأساس. وقد جمع ديكارت، أبو الفلسفة الحديثة، بين عقلانية شكية وبين إيمان روحى دفعه إلى ادعاء ساذج بإمكانية البرهنة على وجود الله بدرجة اليقين نفسها التى يمكن بها إثبات تساوى طرفى معادلة رياضية. وقد انبثق عن ديكارت موقفان نقيضان، فذهب اسبينوزا بالمكون العقلانى فيها إلى النهاية القصوى المادية فى فهم الوجود الإلهية باعتباره قوة كامنة فى الطبيعة نفسها وليست مفارقة لها (رسالة فى اللاهوت والسياسة). وعلى العكس ذهب الفيلسوف الألمانى ليبنتز بالمكون المثالى إلى الحد الأقصى فى كتابه الأشهر «مقال فى الميتافيزيقيا» الذى استعار فكرة الذرات كوحدات أساسية فى بنية الوجود، وهى فكرة يونانية قديمة قال بها الفلاسفة اليونان الذريون، خصوصا أنبادوقليس، ليؤكد الضد منهم، أن الوجود روحى بالأساس، وأنه ينبنى على وحدات روحية (مونادات). كان محمد عبده توفيقيا بهذا المعنى نفسه، إصلاحيا بأعمق مما كان مارتن لوثر، إذ بينما قصر الأخير دعوته على العودة إلى الكتاب المقدس بعيدا عن شروح وتعاليم رجال الكنيسة، لم يكتف الإمام بالدعوة نفسها (رسالة التوحيد) بل دعا أيضا إلى إعمال العقل فى النص (الإسلام دين العلم والمدنية). غير أن مشروع الإمام قد تفرع برحيله إلى تيارين: الأول منهما كان استمرارا طبيعيا له ممثلا فى الشيخ على عبد الرازق الذى نفى كون الخلافة السياسية فريضة شرعية، مثبتا تاريخيتها، وداعيا من ثم، وإن لم يسمها صراحة، إلى علمانية سياسية. وأما الثانى فكان بمثابة نقض لمشروعه تمثل أولا فى التأويل الرجعى له على يد محمد رشيد رضا، الذى أمعن فى الحديث عن الخلافة السياسية. وثانيا فى التدشين الحركى للإسلام السياسى (الحزبي/ الجماعاتي) على يدى حسن البنا، ما ألقى ببذور الانقسام فى تربة العرب. وفى مقابل انتصار الثقافة الأوروبية لمارتن لوثر، عبر مسار تاريخى إيجابى بلغ ذروته مع التنوير الكانطي، قامت الثقافة العربية بالانتقام من محمد عبده عبر مسار تاريخى سلبى انتصر لرضا والبنا على حساب عبد الرازق، وكل المجددين الحقيقيين الذين أتوا بعده. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم;