لا شك فى أن الإعلام الأمريكى ما زال يعيد تقييم الكثير من أساطيره حول الحيادية والمصداقية والدقة والموضوعية خصوصا بعد «الأزمة الوجودية» التى يعيشها منذ فترة، وأشعلها فوز دونالد ترامب وهزيمة هيلارى كلينتون والحديث عن التدخل الروسى فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، واستمرت هذه الأزمة حتى اللحظات الأخيرة التى صوت فيها المجمع الانتخابى الأمريكى رسميا على انتخاب الرئيس الجديد. ودخل على الخط فى هذه الأزمة الوجودية مواقع التواصل الاجتماعي، وفى مقدمتها فيسبوك، والذى قرر مؤخرا أن يعلن الحرب على «الأخبار الكاذبة» التى يراها، كما تراها كبريات وسائل الإعلام الأمريكية، أحد أسباب فوز ترامب. الإعلام الأمريكى عاش فى حالة «غيبوبة»، حيث كان يراهن ويدعم فوز هيلاري، ويهاجم ترامب مستغلا كل الوسائل الدفاعية، ومنها «فحص الحقائق» من أجل كشف «أكاذيب» المرشح الجمهوري، إلا أنه استيقظ على انهيار لكل القواعد والمباديء والمهنية التى حاول لعشرات السنوات الدفاع عنها. وانضم «فيسبوك» إلى وسائل الإعلام فى إعادة «تشريح الجثة»، فحص الحقائق لم ينفع، وانتشار الأخبار الكاذبة هى «الشمعة» التى علق عليها خيباته وفشله ومراهناته الخاسرة. «البابا يمتدح ترامب للرئاسة»، وفضيحة «البيتزا» الخاصة باتهام هيلارى كلينتون بإدارة شبكة لجنس الأطفال، «الديمقراطيون يريدون فرض الشريعة فى فلوريدا»... وغيرها تم اختيارها كأبرز الأخبار الكاذبة والمزيفة فى 2016، وبالتالى بدأ يدور السؤال حول : ما هو الحل لمواجهة هذا الوباء على الواقع الافتراضى والذى يهدد الواقع الفعلى والنظام السياسي؟ فالشاشة تحكم مخ الإنسان مثل الروبوت، وما يراه من أخبار يصدقها على أساس اتجاهاته وميوله ومعتقداته. الرئيس الأمريكى باراك أوباما اعترف بأن الأخبار الكاذبة تشكل تهديدا للديمقراطية، وبالتالى فإن هذا الاعتراف يحمل فى طياته إقرارا بخطورة حرية تداول الأخبار على مواقع التواصل دون التحقق من مصداقيتها. ووسط كل هذه الدوامة والإحساس بالسقوط فى فخ «الأخبار الكاذبة»، وما كشفت عنه من قدرة على تغيير مستقبل وحاضر دول العالم، ظهر القرار بضرورة وقف هذه المهزلة وشن الحرب على أكاذيب الواقع الإفتراضي. فيسبوك يؤكد أن هذه الأخبار لا تمثل سوى 1% فقط بينما 99% من باقى المحتوى على منصته يتمتع بالمصداقية لكن القصص الكاذبة فيروس لا يمكن التنبؤ بحجم انتشاره بل يمكن رؤية انتشاره وتأثيره، وبادر الموقع الشهير إلى التخلص من الفريق المسئول عن اختيار الأخبار الشائعة بسبب نشره لأخبار كاذبة ومقززة وجنسية واتهامات باطلة لبعض المشاهير من الصحفيين، كما أعلن عن خصائص جديدة منها خاصية للتحقق من الأخبار بالاشتراك مع كبريات وسائل الإعلام الأمريكية ومنظمات فحص الحقائق Fact-checking، وتجفيف الحوافز المالية لمرسلى البريد غير المرغوب فيه بالإضافة إلى تفعيل خاصية الإبلاغ عن مثل هذه النوعية من الأخبار، ووسم «الأخبار المتضاربة». كما يبحث فيسبوك فى إمكانية معاقبة المواقع الإليكترونية، التى تسرق من مواقع أخرى، أو التى تضلل القراء بجعلهم يعتقدون أن تلك الأخبار من المصادر الإخبارية الشهيرة. وبدأت العديد من الدول فى بحث اتخاذ إجراءات ضد مروجى وناشرى مثل هذه الأكاذيب والشائعات، وهدد هيكو ماس وزير العدل الألمانى بأن السجن خمس سنوات يلاحق هؤلاء، فحرية التعبير لا تعنى التشهير ولا نشر «القيل والقال» ولا السب والقذف، بينما حذرت الصين الإعلام من عقوبة نشر أخبار من مواقع التواصل دون موافقة. وحاليا، تضخ «جوجل» المليارات من أجل مكافحة الأخبار الكاذبة و«فيسبوك» طلب من مستخدميه تقييم مصداقية العناوين. وطورت جامعة أنديانا الأمريكية محرك بحث «هواكسي» لتتبع انتشار القصص الكاذبة فى الواقع الافتراضي. وهكذا تتأكد صحة اختيار قاموس «أوكسفورد لمصطلح Post fact» أو «ما بعد الحقيقة»، لتصبح كلمة عام 2016، والتى وضع تعريفا لها على أنها «وضع تكون فيه الحقائق الموضوعية أقل تأثيرا فى تشكيل الرأى العام من العواطف والمعتقدات الشخصية». لكن هل تصبح الرقابة والإجراءات التى اتخذها فيسبوك وبعض الدول كفيلة بوقف هذا الوباء أم أن زيادة الوعى وضرورة التدقيق وإتاحة المعلومات يمكن أن تدفع إلى وقفها.