أكتب كلماتى تعليقا على رسالة «الرائحة العطرة» لأنى أعلم جيدا ما يعانيه كاتبها من آلام فقدان والدته، فلقد مررت بكل الأوجاع التى واجهها، وأحفظها عن ظهر قلب، فأنا ابنة لأم رحمها الله، كانت فقط تحيا من أجل إسعاد زوجها وأبنائها، «شقيقاى وأنا» فهى بالنسبة لنا الحبيبة والصديقة والشقيقة، وكل معانى الحياة، ولم أتخيل أن يأتى يوم أحيا فيه بغيرها، وحين اشتد المرض عليها، كنت أراها تذبل يوما بعد يوم بسبب السرطان الذى أكل جسدها وكنت أشعر به ينهينى انا أيضا، فكلما تألمت، اتصلت أوجاعها بروحى حتى أنى لم أكن أشعر بليل أو نهار، فجميعها ساعات وجع لا تنقطع، وعندما أتى أمر الله، وصعدت روحها إلى بارئها فقدت معانى الحياة، فلم أعد أعرف نفسى، وسيطر الحزن على قلبى وروحى، وتمنيت الموت، ففى كل ليلة، قبل أن أغفو، أتمنى ألا أرى شمس الصباح التالى، وفقدت كثيرا من وزنى لدرجة غيرت ملامحى، وحرّمت على نفسى الفرح والألوان.. فقط السواد هو ماكان يريحنى ويطيب أوجاعى، وتعاملت مع الحياة على أنها محطة لابد أن تنتهى حتى ألحق بحبيبتى أينما تكون، وكنت ألوم نفسى إذا ابتسمت أو ضحكت، فلا تحق لى الابتسامة مادامت أمى لا تشاركنى فيها، وكانت عبارات المواساة تؤلمنى أكثر مما تساعدنى، إذ لا أرغب فى أن يواسينى أحد لأنى أرفض الاعتراف بأنى أحيا بدون أمى، ولم يعرف النوم طريقه إلىّ إلا بالمنومات والمهدئات، ومضى أكثر من عام وأنا على هذه الحال حتى أدركت ذات يوم أنى بهذا السلوك أعترض على قدر الله، فاستغفرته كثيرا، فلقد أراد سبحانه وتعالى أن يساعدنى على تخطى هذا الألم الكبير برحمته، وفيض كرمه فبدأت أتقبل واقعى وقدرى، ومع مرور الوقت أدركت، وتذكرت أن أمى كان يسعدها فرحى ويحزنها حزنى، فبدأت أفعل كل مايسعدها، وصممت على النجاح فى حياتى حتى تشعر حبيبتى بأننى حققت ما كانت تتمناه، وكلما نظرت فى المرآة رأيت قسمات وجهى تقترب من ملامحها، وأصبحت أشبهها كثيراً كلما تقدمت فى العمر، وأيقنت أن حكمة الله أن أكون امتدادا لها فى الدنيا، واليوم مرت أكثر من أربع سنوات على فراقها، وأنا أقوى وأشد ايمانا ً ورضا بأمر الله وقدره، ولذلك أسمح لى أن أوجه كلماتى إلى صاحب رسالة «الرائحة العطرة»: «اجعل من غاليتك الفقيدة ذكرى عطرة وتقبل فكرة أن بيننا وبين العالم الذى تنتمى إليه أمهاتنا رحمهمن الله، حياة مقدر لنا أن نحياها كما كتبها الله، ولكى تتجاوز آلامك عليك أن تتأكد أنك امتداد لأمك فى الدنيا، فافعل ماكان يسعدها، وتأكد أنها بجوارك حتى بعد وفاتها، فروح الأم تبقى فى نفوس أبنائها وتشعر بهم، وبسعادتهم، فحاول أن تبقى سعيدا حتى تشعر روحها بك، ولا تعذبها بحزنك وتعايش مع حقيقة أنها أصبحت الآن ذكرى عطرة. ولكاتبة هذه الرسالة أقول: عندما ترحل الأم عن الحياة ينطفئ السراج المنير الذى كان يضئ حياة أبنائها، ويحل الظلام، ويصبح على كل منهم أن يلملم نفسه، وأن يستعيد توازنه، وأن يتلمس خطواته فى الحياة من جديد، فالموت أمر حتمى، وكل شىء إلى زوال، ولن يبقى إلا الواحد القهار، وتتمثل قيمة المرء دائما فيما يضيفه إلى الحياة بين مولده وموته، فإذا كانت الأم قد قدمت أبناء ناجحين بعد أن قاست الأمرين فى تربيتهم، فلابد أن يصنعوا نفس صنيعها، وأن يتلمسوا خطواتها، فيحققوا آمالها وأحلامها فيهم، والله المستعان.