أكتب مقالي هذا قبل إعلان اللجنة العليا للإنتخابات الرئاسية إسم رئيس مصر المنتخب. وسواء كان الفائز هو الدكتور محمد مرسي أو الفريق أحمد شفيق, فان علي جميع المصريين إحترام نتيجة الإنتخابات. وأما معارضة أي منهما, فانني أري أن حدودها هي ضوابط حرية التعبير في مجتمع ديموقراطي, ومعيارها هو إحترام أو إنتهاك حقوق المواطنة والإنسان للمصريين. ومع القبول الواجب بنتيجة إنتخابات الرئاسة, التي تجسد محصلة توازن القوي السياسي ومستوي الوعي السائد ورفض نظام مبارك ورفض الدولة الدينية, وأيا كانت مجريات صراع الإرادات من أجل السلطة في مرحلة إنتقال لن تنته بانتخاب الرئيس, أتصور أنه علي القوي الديموقراطية والثورية بناء بديل ثالث معارض لما يمثله كل من المرشحين من قوي سياسية; في قلبها دون شك قوي تتطلع الي إعادة إنتاج دولة مبارك, وقوي تتطلع الي إقامة الدولة الدينية. وعلي هذا البديل أن يشق الطريق الشاق والطويل الي إقامة دولة المواطنة, التي أراها معيار مساءلة ومحاسبة الرئيس, والعنوان الوحيد لإنتصار ثورة25 يناير, والسبيل الوحيد لبلوغ ما تستحقه وتستطيعه مصر من تقدم شامل, والبوصلة التي لا بديل لها عند وضع الدستور, ومعيار إعادة إنتخاب مجلس الشعب المنحل بحكم المحكمة الدستورية العليا. وصحيح أن تفتيت أصوات القوي الثورية والديموقراطية قد حرمها من فرصة كانت سانحة للإلتفاف حول مرشح واحد, ربما كان بمقدوره الفوز من أول جولة, كما يبين تحليل نتائج إنتخابات الرئاسة. وقد وجدت هذه القوي نفسها في إنتخابات الإعادة أمام خيارين رأت فيهما نذيرا ببعث دولة طغيان, أمنية أو دينية, فقاطعت أو أبطلت أصواتها أو وزعتها مجبرة بين الخيارين المطروحين. لكنه علي هذه القوي بناء البديل المدافع عن دولة المواطنة الديموقراطية, التي يستطيع المصريون بناءها لو يعلمون. وأما الثقة في القدرة علي بناء هذا البديل فتؤكده ما كشفته إنتخابات الرئاسة من تغير في خريطة القوي السياسية; في غير صالح جماعة الإخوان المسلمين, التي تآكل الكثير من مصداقيتها وشعبيتها, وفي غير صالح قوي النظام السابق, وإن استردت بعضا من عافيتها وتأثيرها. وفي كبري الثورات في التاريخ الحديث انقسم الثوار; بين اليعاقبة والجيرونديون في فرنسا, والبلاشفة والمناشفة في روسيا, ومجاهدي الله ومجاهدي خلق في ايران.. إلخ. ولكن لنتذكر أنه في كل هذه الثورات كان العنف هو الوسيلة, فكانت الديكتاتورية هي النتيجة. وقد إنقسمت قوي الثورة المصرية بعد اسقاط النظام, وكررت بذلك ما جري بعد كل الثورات, لكنه رغم كل المخاوف, فانني أثق في أن ثورة25 يناير السلمية, التي فجرتها أمة ولدت منذ فجر التاريخ, ولم تعرف القسمة طوال آلاف السنين, سوف تواصل تقديم مثال تاريخي فريد لثورة ديموقراطية; ليس فقط في وسائلها ولكن أيضا في نتائجها. وإن كان علي أن أقول, وباستقامة, أن الإخوان المسلمين يتحملون مسئولية التطور السلمي أو العنيف للثورة المصرية في مرحلتها الانتقالية الثانية بعد إنتخاب الرئيس. ويتوقف مصير الثورة المصرية, وخاصة من منظور سلميتها وديموقراطيتها, علي إدراك الرئيس المنتخب أنه لا إستقرار بغير بناء دولة جميع مواطنيها. ولن ينال المصريون ما يستحقونه من حقوق المواطنة بغير أن ينطلق الرئيس المنتخب من التفكير في المصالح العليا للأمة المصرية باعتبارها عنوان الهوية والولاء والانتماء, وإعلائه راية دولة المواطنة باعتبارها البوصلة المحددة لبناء نظام جديد يتمتع بالشرعية. وأنطلق في هذا الموقف من تشخيص لطبيعة الثورة المصرية باعتبارها ثورة ديموقراطية; تكتمل ببناء دولة جميع مواطنيها, التي تحمي حقوق المصريين جميعهم, دون إقصاء وتهميش أو تمييز وإنتقاص. ويقتضي نبذ إقصاء أي من أبناء الأمة المصرية أن يدافع الرئيس المنتخب بغير تزييف أو تدليس عن دولة المواطنة; حتي ينتزع المصريون- وإن تدريجيا- كامل حقوق المواطنة; حقا وراء حق. وقد وعد الفريق شفيق بالاستقرار, وهو بين أهم ما تتطلع اليه الأمة, لكن الرؤية الأمنية لن تحقق إستقرارا, وستنزلق مصر الي نفق عدم استقرار منذر ما لم تقطع إدارته الطريق علي محاولات إعادة إنتاج النظام السابق, التي أهدرت حقوق المواطنة والإنسان. وبشر الدكتور مرسي بالنهضة, لكن النهضة لا تتحقق في ظل نزعات إقصائية أو إنتقامية, وستنزلق مصر الي بئر مظلمة لا قرار له ما لم تقطع إدارته الطريق علي محاولات إقامة دولة الفقهاء والخلافة, التي تهدر حقوق المواطنة والإنسان. وعلي الرئيس المنتخب أن يدرك, أن دولة المواطنة هي ما يستحق وبحق وصف الجمهورية الثانية. وعلي الرئيس المنتخب إن أراد بناء أوسع وفاق وطني حول قيادته أن يعلن للأمة إلتزامه بوثيقة العهد ووثيقة الأزهر وغيرهما من الوثائق التي تعلي المباديء الدستورية الثابتة, وتحمي حقوق المواطن والإنسان في مصر, وأن يدرك أن تجنب فقدان الاتجاه نحو دولة المواطنة في وضع الدستور هو السبيل الوحيد لقطع الطريق علي إعادة إنتاج دولة مبارك; التي كرست إخفاقاتها الفقر والظلم والقهر والقمع والنهب والجهل والمرض, وأهدرت سيادة الأمة المصرية وكرامة الإنسان المصري تحت وطأة التخلف والتبعية والحاجة, من جهة, وقطع الطريق علي إقامة دولة الفقهاء الدينية, التي تنذر بتعميق التمييز والتهميش بسبب الدين أو المذهب أو العقيدة أو الرأي فضلا عن النوع, والتي تهدر هوية الأمة المصرية في سياق سعي دعاتها لإحياء دولة الخلافة, وتتعارض مع مفهوم المواطنة بمعناه الملازم لرابطة الجنسية في الدولة الحديثة, من جهة ثانية. وعلي الرئيس المنتخب, لضمان وضع دستور دولة المواطنة, أن يساند تشكيل جمعية تأسيسية للدستور تمثل كافة مكونات الأمة وتضم أرقي كفاءات أبنائها, وبشكل يحول دون غلبة أي تيار فكري سياسي, إنطلاقا من حقيقة أن الدستور لا تصنعه أغلبية حزبية متغيرة. وحقوق المواطنة, تحت الشعار البوصلة المواطنة هي الحل, هي ما ينبغي أن تدعو اليه, وتطالب به, وتسائل وتحاسب علي أساسه الأمة سواء من يكسب رئاسة الدولة أو من يحوز الأغلبية البرلمانية. ومن ينكر هذا ينسي أن الإنتخابات ليست غاية, وأن السلطة ليست غنيمة. وعلي الرئيس المنتخب إدراك أن مصر هي محل العيش المشترك للمصريين, مسلمين وغير مسلمين, وأن شعار المصريين العظيم الدين لله والوطن للجميع لم يكن وليد ثورة1919, بل كان أساس تكوين مصر قبل أكثر من خمسة آلاف سنة, حين أقام الأجداد المؤسسون رغم تنوع معتقداتهم وأصولهم أول دولة مركزية وأمة موحدة في التاريخ. فقد كان قبول وإحترام الآخر المختلف دينيا, وبدرجة ما عرقيا, هو ركيزة الوحدة بين الصعيد والدلتا, أو القطرين أو الأرضين, والأساس المتين لرسوخ وحدة مصر الفريدة. وأخيرا, فانه علي الرئيس المنتخب إن أراد تقليص معارضته نبذ الإقصاء السياسي, بإدراك أن دولة المواطنة لا تستقيم بإقصاء أحزاب تستند الي مرجعية قيم ومباديء ومقاصد الإسلام في إقامة العدل وإعمار الأرض وغيرها, طالما لا تدعو للعنف ولا تحض علي الكراهية, من جهة, وإدراك أن العزل السياسي ينبغي أن يقتصر علي من يدينهم القضاء في محاكمات عادلة بجرائم الفساد والإفساد, من جهة أخري. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم