منذ سنوات أصدر قاض فى لندن حكما قضائيا خفيفا على رجل اقتحم كنيسة واعتدى على امرأة تصلى، وجاء الحكم بسيطا، وقوبل باحتجاج شديد من الرأى العام ونوقش وانتقد على شاشات التليفزيون ومانشيتات الصحف، وكان النقد عظيما وسط موجة من الاضطراب والانفلات التى كانت تجتاح المجتمع البريطانى، وظهر القاضى فى التليفزيون وشرح وجهة نظره، وعلق الأستاذ أحمد بهاء الدين يومها على هذه القضية فى «الأهرام» وقال إن التعليق على أحكام القاضى حق شرعى وجائز طالما ليس فيه شبهة المساس بشخص القاضى، وطالما أن التعليق ينصب على الرأى والاجتهاد ولا يتطرق إلى ضميرالقاضى والتشكيك فى دوافعه أو تجريح ذمته. وما أشبه الليلة التى عاشتها الصحافة عندنا بالبارحة فى لندن، فمنذ صدور حكم بمعاقبة نقيب الصحفيين واثنين من أعضاء النقابة بالحبس سنتين والكفالة 10 آلاف جنيه لاتهامهم بإيواء مطلوبين للعدالة، وتحول زغاريد الحرية فى أرجاء المحروسة عشية قرار الرئيس بإطلاق سراح الدفعة الأولى من المحبوسين والمسجونين إلى صراخات وانتقادات وبكاءات على وضع الحرية فى مصر. وبجرة قلم تحولت رسالة الدولة إلى العالم «إن الاصلاح السياسى يمشى جنبا إلى جنب مع الاصلاحات الاقتصادية» تحولت الرسالة إلى اتهام بالتضييق والترويع والتأديب وتنشيط الأحكام السالبة للحرية. فهل توجد حكومة خفية موازية للحكومة الرسمية مهمتها تحويل اجتهاداتها إلى صخب ولعنات؟ الإجابة فى الحملات الاستباقية لشياطين الحكومة التحتية التى حشدت فى فضائياتها قضاة ومستشارين ورجال نيابة سابقين وحاليين لمنع الافراج عن المتهمين بالتظاهر من أجل «تيران وصنافير»، وربما شكلت ضغطا على القاضى أبوالعطا فأصدر حكمه المتقدم الذى أثار الألم دون أن يبدى الندم أو التوضيح كما فعل قاضى لندن؟ وبنظرة على أحداث الاسبوعين الماضيين فقد فوجئ الناس بصدور قانون القيمة المضافة ثم تحرير سعر الصرف، وإصابة أسعار السلع بالجنون وبدأ الناس يتجرعون نصائح الخبراء ويتفهمون معنى أن هذا التعويم هو الدواء المر الذى يجب أن نتجرعه فى طريق الاصلاح الاقتصادى، ولكن ماكاد الدواء يتفاعل وتنجح الثقة التى زرعتها تصريحات الرئيس عقب مؤتمر شرم الشيخ وعزمه تشجيع المشروعات الصغيرة وتوفير فرص المشاركة للشباب، ثم توجيهاته بدراسة العفو عن الشباب، حتى فوجئ الناس بقرار تخفيض الدعم على البنزين وارتفاع سعر البترول ومشتقاته فانتابت الأسعار حالة من الصرع، ومع اقتراب موعد 11/11 المزعوم انتابتنى وغيرى حالة من الترقب والهلع، وجعلت البعض يتساءل: عن اللهو الخفى وراء القرارات الجهنمية فى وقت تتربص بمصر قوى الشر فى الخارج والداخل وفى القلب منها الجماعة الارهابية بلا أى شك؟ لكن الإجابة الحاسمة جاءت تلك المرة من الشعب المصرى نفسه ومن الطبقات المطحونة التى استهدفتها الحملات، والتى وضعتهم أمام خيارين، إما أن تستجيب لدعوات ثورة الجياع والغلابة، وإما أن تستجيبب لنداء التحدى وأن العمل شرف والعمل واجب وكرامة ، و«ظل وطن ولا ظل حيط» كما عبرت عن ذلك منى السيد إبراهيم «فتاة التروسيكل» فى شوارع الإسكندرية. ولكن يبدو أن توق المصريين للوطن والأمن على حساب شعارات الغلاء وجنون السلع، لم يعجب عفاريت المصالح فى الحكومة السفلية التى كانت تبحث عن أى فرصة لتعطيل قرار الرئيس السيسى بالافراج عن السجناء السياسيين وإفشال لجنة «حرب» بأى ثمن ولو كان بالتشكيك فى عملها والخلط المتعمد بين المحبوسين على ذمة التحقيق وقضايا الرأى فى مظاهرات «تيران وصنافير» وبين سجناء التمويل الأجنبى والإرهاب الذين تلوثتٍ أياديهم بدماء الشهداء والمشاركين فى عمليات إرهابية على المقار الأمنية وقوات الأمن والجيش فى سيناء ، ورغم كل هذه المحاولات والأجواء صدر قرار الرئيس بالإفراج عن 82 محتجزا كدفعة أولى من قائمة تضم أكثر من ألف محبوس. فكان من الطبيعى وفى عز الفرح والتفاؤل بتنقية الأجواء والمصالحة مع الشباب ووفاء الرئيس بوعده، أن يعاود الجن السفلى نشاطه، ووسط هذه الأجواء يصدر الحكم بحق يحيى قلاش واثنين من أعضاء النقابة بالحبس سنتين مع الشغل والغرامة ! ولكن.. مهما يكن الخلاف على أداء يحيى قلاش وسكوته على تسييس العمل النقابى، فإن التوقيت جاء على هوى «الجن السفلى» الذى وجدها فرصة للتشويش على قرار الرئيس بالافراج عن السياسيين قبل ساعات من سفره إلى أوروبا وبدلا من أن تكون رسالته للعالم إن مصر جادة فى الإصلاح السياسى كما هى جادة فى الإصلاح الاقتصادى، وأن هيبة الدولة من رحابة صدرها وسماحها بهامش واسع للحرية وللخلاف فى داخل الوطن وليس الاختلاف على الوطن, يقضى الرئيس معظم وقته فى الإجابة على أسئلة الأمن المفقود وفرص الحرية أمام الاستثمار الموعود. ومالم يتم التعجيل بصدور القوانين المنظمة للصحافة والكيانات الإعلامية، ومعالجة الآثار السيئة للحكم بحبس نقيب الصحافة، ستتحقق نبوءة «كاريكاتير» عمرو سليم بأن الثورة قد غيرت شعارها من عيش حرية عدالة اجتماعية إلى عيش ترويع حلاوة طحينية! لمزيد من مقالات أنور عبد اللطيف;