رحم الله العقاد حينما خرج بهذا التعبير العبقري: (التفكير فريضة إسلامية)، ومنه أستوحى هذا المعنى فأقول: (الحضارة فريضة إسلامية)، وأبدأ اليوم لمحة من ذلك، وسباحة فى هذا الأفق فأقول: قرأ المسلم الوحى الشريف، فرأى فى أوائل خطاب الله له قوله تعالى فى أول سورة الفاتحة: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فتشرب العقل المستنير حكمة الله تعالى فى هذا التعبير الربانى الحكيم، وأنه سبحانه وصف نفسه فى أوائل خطابه لعباده بأنه رب العالمين جميعا، ولم يقل رب المسلمين فقط، أو رب أهل الكتاب، أو رب البشر، أو رب الأحياء، وهو سبحانه رب الجميع وخالق الجميع، فكان يمكن أن يعبر بأى واحد من تلك التعبيرات، وتكون العبارة صادقة ومطابقة للواقع، لكنه سبحانه أراد أن يلقى إلى عقل الإنسان فى أول قراءته للوحى هذا المعنى الجليل من وجود ارتباط معين، وعلاقة معينة، وقاسم مشترك، وتفاعل معين، بين الإنسان وبين العالمين جميعا. حتى يتشرب العقل المستنير من بداية الوحى معنى الاتساع للعالمين، والارتباط بالعالمين، فيخرج من ضيق نفسه إلى الرحابة والسعة، ويتطلع إلى الكون من حوله، فيستكشف أسراره وقوانينه الفيزيائية، فتنشأ المؤسسات وتولد الحضارة. وقد تأكد هذا المعنى بعشرات من الشواهد القرآنية، التى تربط الإنسان بالكون، وتفتح أفقه ليراقب السماء، ويرصد الأفلاك والأجرام السماوية، فقال سبحانه: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)(سورة يونس:101)، وقال سبحانه: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ)(سورة الحجر:16)، وقال سبحانه: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ)(سورة الصافات: 6)، وقال سبحانه: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ)(سورة الملك: 5)، وقال سبحانه: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)(سورة النحل: 16). وغير ذلك كثير من الآيات القرآنية الكريمة، التى تربط الإنسان بالسماء، وتجعله ينظر ما فيها، ويرقب البروج، ويرى منازل الأجرام، وحركة الأفلاك. حتى تأتى الآية التفصيلية التى تزيد عقله ارتباطا بالعالمين، فقال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)(سورة الحج: 18)، فهنا عرضت الآية نماذج من العالمين، الذين يرتبط الإنسان بهم، وأنهم عدد من العوالم العلوية والسفلية، ما بين نجوم وأفلاك وجبال وأنهار وشجر. ولكل عالم قوانين وسنن، والغرض من كل ذلك هو التفكر، واستخراج قوانين تلك العوالم، حتى تتطور العلوم الفيزيائية، وعلوم الأحياء، والتاريخ الطبيعي، فتولد مؤسسات الحضارة، لقوله سبحانه: (إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِى الْأَلْبَابِ)(سورة آل عمران:190)، فبين سبحانه أن فى خلق تلك الأكوان كلها آيات لأصحاب العقول المتفكرة المنيرة، التى تقفز إلى قوانين الحضارة ومؤسساتها، والتى تهتدى إلى الله. ثم ازداد هذا المبدأ عمقا فى العقول بالأحكام والشرائع والعبادات التى جعلها الله تعالى مرتبطة بحركة الأفلاك فى السماء، فمواقيت الصلاة قائمة على رصد حركة الشمس، قال سبحانه: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) (سورة الإسراء:78)، ومعرفة اتجاه القبلة يحتاج إلى النظر فى السماء، ومعرفة دخول شهر رمضان متوقف على رصد الهلال، فقال صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، رواه البخارى ومسلم، أى لرؤية الهلال، ودخول فريضة الحج يحتاج إلى معرفة منازل القمر ورصد الأهلة، فقال سبحانه: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)(سورة البقرة:189). مما يزيد العقل المسلم فى كل لمحة ارتباطا بالسماء وأفلاكها وقوانين تلك الأفلاك، فيجذب عقله للعلوم الفلكية، فتولد الحضارة، ويؤسس لصناعة مراصد الفلك. وكل ما سبق يشبه التفصيل للمعانى الجليلة المودعة فى قوله تعالي: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(سورة الفاتحة:2)، مما يؤكد كلام المفسرين فى أن الفاتحة هى أم القرآن، وأن القرآن كله كالتفصيل لما فى الفاتحة من المعاني. والمبدأ الذى يرسخه القرآن الكريم هنا فى عقل قارئه هو الاتساع والانشراح للعالمين، وما زال القرآن يؤكد على هذا المعني، حتى يظل الإنسان دائما مشدودا إلى العالمين، مرتبطا بهم، دائم النظر والفكر فى قوانينها، يهتدى كل فترة إلى اكتشاف القوانين الدقيقة المحكمة التى بنى الله تعالى عليها تلك الأكوان. وهكذا يؤسس القرآن الكريم العقل الصانع للحضارة، ويعلمه منهجية التفكير، وينزع عنه الغشاوة التى تجعله ينحصر داخل نفسه، ويكفر غيره، ويعتدى على الناس ويحمل السلاح عليهم، فيريد القرآن منه أن يتحرر من هذه الأغلال، وأن ينطلق ويخترع ويفكر ويبدع ويؤمن ويرحم ويتسع ويهدى ويتحضر ويتمدن ويسعد فى الدنيا والآخرة. و(للحديث بقية). لمزيد من مقالات د.أسامة السيد الأزهرى;