«مشكلة أبويا انه أعمى وسط ناس مفتحين وبيغني لناس طرش». هكذا كان يتحدث يوسف عن والده الضرير الشيخ حسني. وقد ظل الشيخ حسني دائما يتحدى عجزه وعندما سمع من ابنه «لماذا لا تعترف أنك أعمى» رد عليه بحسم: «أنا أرى أحسن منك في الظلمة والنور». ونعم، أتحدث عن الشيخ حسنى الذي جسده بتمكن وابهار محمود عبد العزيز في فيلم «الكيت كات» من اخراج داود عبد السيد. وبالطبع أتذكر «محمود عبد العزيز الممثل العظيم وأدواره .. وقد ترك عالمنا منذ أيام بعد أن أبهجنا وأمتعنا على مدى سنوات عديدة. ................................ وفيلم «الكيت كات» تم عرضه لأول مرة في دورالسينما يوم 9 سبتمبر 1991. وقد تم تصوير هذا الفيلم خلال خمسة أسابيع، بتكلفة 500 ألف جنيه تقريبا. والفيلم هو المعالجة السينمائية لرواية «مالك الحزين» لابراهيم أصلان. ويقول المخرج السينمائي داود عبد السيد:» قرأت رواية «مالك الحزين»، وأتذكر جيدا أنه فور انتهائي من آخر صفحة، وجدت نفسي بشكل تلقائي أعود الى أول صفحة من أجل قراءة جديدة، أحببت الرواية جدا، وعند قراءتها مرة أخرى أخذت معالجة سينمائية، مكتملة الى حد ما تشكل في ذهني، فقمت بتدوينها على الورق كنقاط من أجل التذكرة». استغرق كتابة السيناريو من «داود» شهرين تقريبا .. وفترة البحث عن منتج للفيلم أربع سنوات. ولا شك أن كتاب «داود عبد السيد أبواب ورسائل» لمحمد رجاء يعد مرجعا هاما لمعرفة عالم داود عبد السيد وأفلامه. «داود» الذي ولد بشبرا في 23 نوفمبر 1946 أى منذ سبعين عاما وانتقل مع أسرته الى مصر الجديدة وهو في العاشرة.. وعشقه للسينما بدأ من خلال سينما «نورماندي». كما أن نوفمبر أيضا بالنسبة له يحمل تاريخ زواجه بالكاتبة الصحفية كريمة كمال 14 نوفمبر 1984. وقد ذكر «داود عبد السيد» من قبل أن «محمود عبد العزيز» كان الترشيح الأول لدور «الشيخ حسني» وأن محمود كان بذهنه أثناء كتابة السيناريو. وقال عنه:» الشيخ حسني هو من تعاملت معه أثناء التصوير، فشخصية محمود عبد العزيز تلاشت مع الدور وأصبح كل واحد منهما يعبر عن الآخر، لقد تعامل محمود عبد العزيز مع أكثر من شخصية ضريرة وأتقن أداء دوره حتى أنني كنت أمسك يده في بعض الأوقات اعتقادا مني أنه ضرير». مخرج هذا الفيلم العظيم والحاضر أبدا في ذاكرتنا يذكر أيضا:»في الكيت كات أحاول أن أنقد مرجعي النفسي والحياتي، الفيلم يتحدث عن المواجهة بين كل واحد وبين عجزه، ولأنك تريد أن تتجاوز عجزك، فعليك أولا أن تتعرف عليه ثم تتجاوزه» ويقول»أنت أمام مجموعة من البشر وراء حوائط ، وجميعهم مكشوفين، وكل المجتمع مكشوف أمام نفسه، الا أنه يعتبر نفسه مستورا خوفا من الفضيحة، أنت تعرف مشكلتي، ولكنك لا تصارحني بأنك تعرف، وأنا أدعي باعتقادي بأنك لا تعرف». ولا يمكن أن ننسى من هذا الفيلم مشاهد ومواقف كثيرة منها «صباح الخير يا عم مجاهد» ومشهد الشيخ حسني يقود ضريرا آخرا في أزقة الحارة .. ومشهد قيادته للموتوسيكل ومشهد العزاء ومكبر الصوت الذي نقل للجميع أسرار الحارة. وبالطبع لا ننسي كلمات سيد حجاب في أغنية رددها الشيخ حسني: يلا بينا تعالوا نسيب اليوم بحاله وكل واحد مننا يركب حصان خياله درجن درجن درجن ونعم أن تركب حصان خيالك فكرة داعبت خيالنا كثيرا. وبدلا من أن نقول لأنفسنا هذا أمر مستحيل حاولنا دائما أن نسعى اليه ونأتي به. وبالتأكيد وجدنا أنفسنا أحيانا في مطاردة دائمة لهذا الحلم (البعيد ربما) وان ظل دائما في البال. وطبعا الحلم الأكبر كان وسيظل هو أن أحلم دائما ولا أفقد القدرة والرغبة في أن أحلم الى أن أصبح في خبر كان .. وخبر أخواتها كمان. وبالطبع الحالم يا صديقتي ويا صديقي لا يمل ولا يشيخ طالما يملك «شقاوة الدهشة « و»مفاجأة اللقاء» و»احتضان اللحظة». ايه صعبة الحكاية دي!! وأنا أقف أمام هذا الفيلم المبهر أبحث عن ما قاله متذوقو السينما عن «الكيت كات». اذ كتبت الناقدة السينمائية خيرية البشلاوي في «المساء» تحت عنوان «الكيت كات:أنشودة كفيف يعزف لحن الحياة». «استطاع الرجل الكفيف في فيلم الكيت كات أن يمتطي حصان خياله ويتجاوز عمى النظر الى آفاق نور ورؤى وأحلام لا تحدها حدود. استطاع كفيف حي الكيت كات واسمه الشيخ حسني أن يتحدى عجزه ويكسر حدود واقعه الضيق المحصور ويطير ويجذبنا الى الطيران معه ونحن نضحك تملؤنا مشاعر الدهشة والخوف من أن يقع قبل أن يكتمل الحلم ويتحقق هذا الوهم الجميل» أما عاشق السينما رءوف توفيق فقد كتب في مجلة «صباح الخير» وتحت عنوان» الأعمى الذي يرى .. ويضحك كثيرا» ..»اذا كنت تشكو من خشونة الواقع، وغلظة المشاعر، واكتئاب العاجز عن تحقيق أحلامه. فأنا أنصحك أن تشاهد فيلم الكيت كات». أما المخرجة نبيهة لطفي فكتبت في الأهالي «أجمل ما في فيلم الكيت كات هو لحظات الانطلاق، لحظات الخروج من منطق القيود المحكمة..قيود المعقول وقيود التقاليد والعيب والحرام في هذه اللحظات يتم بناء منطق آخر نستطيع فيه أن نمسك الهواء ونتلمس الماء وتقبض بيدك على نور الفضاء». الناقد طارق الشناوي وهو يتناول عالم «داود « السينمائي كتب: «.. امتلك «داود عبدالسيد» ميكروسكوباً وتليسكوباً معاً، كان يقترب بالميكروسكوب من التفصيلة الدقيقة ليصنع منها عالماً مترامي الأطراف.. وفي نفس الوقت كان قادراً بنظرة من خلال التليسكوب أن نري الكون كله في لقطة واحدة، إنها براعة سينمائي قرر أن يمزج وجدانه مع أحاسيس الناس ويحيل كل ذلك إلي أفلام تحفر لها مكانة دائمة في وجداننا بعقل الميكروسكوب وقلب التليسكوب!!..مضيفا « أفلامه تعيش فينا أكثر مما نعيش معها.. تشاهدنا قبل أن نشاهدها!!» ................................ كم من المرات توقفنا عند حكاية أو تأملنا مشهد وقلنا «ده ممكن يبقي في فيلم». فيلم أنت صانعه وأنت مشاهده الوحيد وأنت المستمتع به. فيلم قد لا يراه الآخرون الا أننا طالما تخيلناه وشاهدنا وعشناه يكفينا هذه الحالة المزاجية الرائعة. فيلم لا يحمل تترات الأسماء المشاركين في تصويره واخراجه وغالبا له نهاية مفتوحة. وبالطبع فيلم لا يتعرض لمقص الرقابة ولانتقادات النقاد وتعليقاتهم. والأمر الأهم فيلم لا يخضع لمفهوم «الجمهور عايز كده» بمتطلباته القاسية. لأنه فيلمك أنت.. وطالما أنت استمتعت به. فأهلا بك وبفيلمك الفريد من نوعه. وأنت بالطبع في انتظار أفلام أخرى في المستقبل. «سكوت هنصور..» و»درجن درجن درجن»