في ثنايا صفحات الرواية العربية، ظهرت شخصيات خيالية تم تخليدها في أذهان القرّاء؛ إما بفضل الخصائص المميزة لبعضها أو نظراً لعوالم الرواية التي ظهرت فيها أو لأن بصمة السينما قد حفرتها في قلوب المشاهدين فيما بعد.. أياً ما كان السبب!! فقد اخترنا لكم عشر شخصيات خيالية لن نكون مبالغين لو قلنا إنها الأفضل، قد يختلف معنا البعض في تقييم هذه الشخصيات، لكن سعينا أن نبيّن سبب اختيار كل شخصية ضمن الملف الذي نقدّمه لك عزيزي القارئ، حيث كل أسبوع شخصية... ولكل شخصية حدوتة...
رغم أن (يوسف النجار) كان هو البطل الأساسي لرواية "مالك الحزين" للكاتب (إبراهيم أصلان).. ورغم أن الرواية نفسها احتوت على ما يقرب من المائة شخصية في كتاب لم تتجاوز صفحاته ال170 صفحة من القطع المتوسط "طباعة مكتبة الأسرة"، إلا أن شهرة (الشيخ حسني) كانت هي الأطغى على كافة المستويات؛ المستوى الأدبي والفني والجماهيري, رغم أنه كان أقرب إلى شخصية ثانوية في الرواية..
من هو (الشيخ حسني)؟ (الشيخ حسني) شخصية حقيقية إلى أقصى درجة.. تحمل تناقضات كثيرة, لكنها منطقية مترابطة، وتحتوي على تعقيدات مريبة, لكنها بسيطة سلِسة.. كفيف.. فقَدَ البصر لكنه لم يفقد البصيرة.. محب للحياة, مصدر دائم للسعادة والأمل.. أعمى ظريف, حتى أنه يخدع المعلم (رمضان) المُبصر أثناء تقسيم البرتقال ويأخذ لنفسه -بالحيلة- النصيب الأكبر أمام عيني المعلم نفسه.. و(الشيح حسني) أيضًا مقرئ للقرآن.. لكنه في ذات الوقت مدرّس موسيقى سابق.. أعمى, محبط, لكنه لا يستسلم أبدًا.. يصطاد العميان, ويقوم بمساعدتهم بعد أن يُقدّم له (عبد الله القهوجي) المعلومات اللازمة عن الضحية الكفيفة.. سنّه.. وملابسه.... إلخ...
ما تلك الهواية؟.. ما تلك الرغبة المحمومة في إيهام العميان بأنه يرى؟.. هو لا يقول للشيخ (جنيد) الكفيف -إحدى ضحاياه- صراحة أنه يرى؛ لكنه يتصرّف معه تصرّف الرجل الذي يرى: - "كان يطلب منه أن يصعد, أو ينزل, أو ينحرف؛ ليتفادى حفرة أو طوبة, ويتوقف في الطريق؛ ليصافح الناس الذين يراهم ويعرفهم, ويُقلّب له الشاي, ويصف النساء, كما كان يقطع كلامه لينظر في ساعته ويخبره عن الوقت..".
(الشيح حسني) لا يعترف ولا يقتنع بأنه أعمى.. بل الكل هم العميان وهو المُبصر الوحيد.. المجتمع أعمى بفقره وتخلّفه.. بعشوائياته وأكواخه وعششه وأكوام زبالته.. والأفراد عميان باستسلامهم وجهلهم وإحباطهم وعجزهم.. وهو المُبصر بإرادته.. وأحلامه.. ورغباته.. مهما كانت تلك الرغبات.. فالشيخ (حسني) ركب دراجة، واستأجر موتوسيكلاً ساقه بمفرده، وركب "فلوكة" لوحده في قلب البحر مع الشيخ (جنيد) الأعمى.. وهو يمنع (زين المراكبي) عن أن يُؤذن لصلاة الفجر في رمضان قبل أن يتمكن هو وأصحابه المساطيل من شرب الماء.. وهو يتقمّص دوره بإتقان شديد حتى مع من يعرفونه.. فهو عندما يذهب بالدراجة إلى منزل صديقه, ويصعد إلى شقته ليُسلّم على أفراد الأسرة على عجل, يُخبرهم -ببساطة واعتيادية- أنه مضطر للنزول؛ لأنه يريد أن يُعيد الدراجة إلى (عبد النبي العجلاتي).. عندها؛ يتجمّع أهل البيت والشارع ليروا كيف سيركب الشيخ الدراجة.. حتى لو سقط في النهاية في البحر, فتلك حادثة من الممكن أن تحدث لأي مخلوق آخر.. المهم أنه مارس الحياة وفق طريقته..
(الشيخ حسني) في السينما.. رواية "مالك الحزين" نجحت في تحقيق شهرة عريضة قبل تحويلها لفيلم سينمائي.. بل إن تلك الشهرة هي ما دفعت المخرج (داوود عبد السيد) لتحويل الرواية إلى فيلم.. ولا شك في أن الشخصية الروائية عندما تخرج من الوسيط الأدبي "الرواية" إلى الوسيط الفني "السينما" تنال شهرة أكبر.. ولِمَ لا؟ فالسينما بالنسبة للرواية لا تكتفي بلعب دور الوسيط المرئي للنص المقروء.. وإنما أيضًا تعتبر أهم أدوات الدعاية للرواية نفسها.. تمامًا مثل الصحف والمجلات والمقالات وحفلات التوقيع وتقارير ال"Best Seller".. إلخ...
لكن شهرة وشعبية (الشيخ حسني) لم تأتِ فقط بسبب قيام الفنان (محمود عبد العزيز) بتمثيل دوره في فيلم "الكيت كات" للمخرج (داوود عبد السيد) عن نفس الرواية.. ولا بسبب المَشهد الأروع الذي يركب فيه (الشيخ حسني) - (محمود عبد العزيز) الموتوسيكل ويقوم بقيادته -هو الضرير- وسط شارع "مراد" الشعبي البسيط والمزدحم بالبشر والأشياء ومفردات الشارع من سوق وخضراوات وفاكهة ودواجن وأقفاص.. إلخ... بينما الناس تجري منه في كل اتجاه.. وإنما لأن شخصية (الشيخ حسني) نفسها في الرواية هي التي فرضت على الجميع أن تكون الشخصية الأبرز وأن يتم اختيارها لتكون هي محور الفيلم.. في حين تتحوّل شخصية (يوسف النجار) إلى شخصية ثانوية في الفيلم, ومع ذلك لا يتبدل الخط الدرامي تمامًا.. رغم أن كلا الشخصيتين يُناقض الآخر.. ف(يوسف النجار) هو المُبصر المحبط والمهموم أبدًا, والذي يشعر دومًا بالغربة ينزع عنه صنّاع الفيلم -بموافقة المؤلف- كل التوتر النفسي والصراع الفلسفي الذي كان يعتريه في الرواية.. وهذا الضرير المليء بالتحدي والتمرد يصير محورًا للموضوع كله.. وتتقاطع كل الأحداث عبره. وكل المَشاهِد تأتي من خلال عينيه الضريرتين؛ لأنه ببساطة الأكثر تعبيرًا عن الواقع, والأكثر بساطة, وليس فقط الأكثر قبولاً..
ولو تأملنا قليلاً لأدركنا أن كل واحد منا يُخفي بداخله (شيخ حسني) وهو مبصر بطريقة أو بأخرى.. وكل واحد منا يعربد بداخله (يوسف نجار) وهو أعمى أغلب الأوقات..
على الهامش: • استغرقت كتابة رواية "مالك الحزين" ما يقرب من التسع سنوات ونصف، بداية من ديسمبر 1976 وحتى إبريل 1981. • قام المخرج (داوود عبد السيد) بتحويل الرواية إلى فيلم "الكيت كات" في عام 1991 بعد تغيير ودمج بعض الشخصيات وحذف البعض الآخر.