أثار رفض كل من مصر والسودان التوقيع علي اتفاقية حوض نهر النيل منذ عدة شهور, ردود أفعال متنوعة ومتباينة, وأحيانا تبدو متصارعة سواء من جانب مصر والسودان من جهة, من جانب بقية دول الحوض من جهة ثانية وذلك علي المستويين الرسمي والإعلامي. فقد طالبت كل من مصر والسودان بضرورة تضمين الاتفاقية عدة مبادئ يتعين الالتزام بها قبل قيامهما بالتوقيع عليها, ألا وهي: النص علي احترام الحقوق التاريخية والمكتسبة للدولتين فيما يتعلق بحصتيهما التاريخية في مياه نهر النيل. والالتزام بالإخطار المسبق من قبل دول المنبع (إثيوبيا, كينيا, تنزانيا, أوغندا, رواندا, بوروندي, الكنغو الديمقراطية, اريتريا) لدولتي المصب (السودان ومصر) عن أي أعمال تنوي دول المنبع القيام بها علي نهر النيل وروافده يمكن أن تؤثر سلبا علي حصة الدولتين في المياه, مع ما يتطلبه ذلك من موافقة الدولتين ابتداء. وضرورة أن يكون التصويت علي القرارات في التنظيم المقترح لنهر النيل إما بالإجماع أو بالأغلبية, بشرط موافقة دولتي المصب إن اتفق علي الأغلبية. إزاء رفض دول المنبع اعتماد المباديء السابقة من جهة, ورفض كل من مصر والسودان التوقيع علي الاتفاقية ما لم يتم الأخذ بها من جهة ثانية, اتجهت بعض دول المنبع إلي التوقيع علي الاتفاقية (إثيوبيا, تنزانيا, أوغندا, رواندا ثم كينيا وبورندي), بشكل أثار موجة من الحرب الإعلامية بين الطرفين علي المستويين الإعلامي والرسمي, دفع بالغالبية إلي وصف هذه الحالة: بالأزمة بكل ما تحمل من تفسيرات وتبعات. غير أن المتأمل لوضع هذه الأزمة, وواقع دول المنبع من حيث احتياجاتها المائية, ومن حيث قدراتها علي التأثير علي كمية المياه المتدفقة إلي مصر والسودان, فضلا عن الاتفاقيات السابقة التي تنظم العلاقات المائية بين دول نهر النيل يدرك دونما عناء انه لا توجد أزمة حالة تقتضي ردود أفعال عنيفة, وإنما العكس هو الصحيح, إذ ما زال الوقت مبكر للحديث عن أزمة بالمعني العلمي لها, ومازال هناك وقت يسمح بالتعامل السلمي من خلال الدبلوماسية الناعمة, أو من خلال السبل القانونية للحيلولة دون تطور الوضع إلي أزمة. مرد القول السابق أن دول المنابع حتي الوقت الراهن ليست في حاجة ملحة لكمية من المياه تؤثر علي حصتي مصر والسودان, ثم إنه لا توجد لديها القدرة في المستقبل المنظور للتأثير علي كمية المياه, فضلا عن أنه لا يوجد لديها أي حق قانوني للتصرف علي النحو الذي أعلنته. وتفسير ذلك علي النحو التالي: أولا: دول المنابع ليست في حاجة ملحة وحالة للمياه. ويرجع ذلك إلي عدة أسباب نذكر منها: أن مياه نهر النيل لا تتسم في كميتها بالندرة, بل العكس فهناك وفرة غير مستغلة, كما أن غالبية دول المنابع تعتمد في زراعتها علي الأمطار وبنسب تتراوح بين 80% إلي نحو 95% من الأراضي المزروعة, إضافة إلي أن الاحتياجات المائية من نهر النيل والمعلن عنها من جانب دول المنابع تراوحت بين أقل من 2 مليار م3 عام. 1959 ارتفعت إلي 5 مليارات م3 في بداية التسعينات ثم 10 مليارات م3 مع بداية القرن الحالي. ثانيا: ليس لدول المنابع قدرة علي التأثير علي انسياب المياه: لأسباب عديدة منها: أن إثيوبيا قد تبدلت تحالفاتها خلال الحرب الباردة مع كل من الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي, ورغم ذلك لم تتمكن أي من الدولتين من مساعدة إثيوبيا علي القيام بمشروعات تؤثر سلبا علي حصة مصر من المياه رغم تهديدات إثيوبيا المتكررة بذلك, كما أن هناك صعوبات جمة في إمكانية إقامة سدود بالشكل المعلن عنه (نحو 50 سدا) علي روافد النيل, نتيجة عقبات ومعوقات طبيعية (العمق الشديد للمنابع) والصعوبات الفنية والتكاليف الباهظة لإنشاء مثل هذه السدود, وهي تكاليف تفوق قدرة دول المنابع, وحتي إذا أمكن التغلب علي العقبات الطبيعية والفنية والمالية لبناء سدود بهذا العدد, فإن ذلك سيتبعه عدة تساؤلات حول مساحات الأراضي سيتم غمرها خلف هذه السدود, وعدد النازحين الذين سيتم ترحيلهم من أراضيهم, والتكاليف النفسية والاجتماعية والمالية... الخ, إضافة إلي أن غالبية الأراضي التي تندفع منها المنابع, هي أراض بازلتية غير صالحة للزراعة. ثالثا: ليس لدول المنابع أي حق قانوني في تقليل حصتي مصر والسودان من مياه نهر النيل. حيث اتجهت دول منابع نهر النيل إلي اتخاذ موقف شبه جماعي من رفض كافة الاتفاقيات السابقة المتعلقة بتنظيم البعد المائي في العلاقات بين دول نهر النيل, بدءا من تنجانيقا (تنزانيا بعد ذلك) عام 1961 وتبعتها في ذلك كل من أوغندا وكينيا وبوروندي عقب الاستقلال. وسارت إثيوبيا علي ذات النهج معلنة عدم تقيدها بأية التزامات تعاهدية تجاه الدول المشاطئة الأخري في حوض النيل, وأنها تحتفظ بحقها السيادي منفردة في تنمية مواردها المائية. وعلي أية حال فإنه يمكن الرد علي هذه الادعاءات قانونيا بما يلي: إن كل المواقف السابقة لا سند لها في القانون الدولي, ذلك أن الاتفاقيات المنظمة لنهر النيل, علي تنوعها, تعتبر اتفاقيات إقليمية ترتب حقوقا علي الإقليم نفسه فتدمغه بوضع دائم لا يتأثر بالتغييرات التي تطرأ علي شخصية الدولة التي تمارس السيادة علي الإقليم وحلول دولة محل أخري في السيادة علي الإقليم. ثم أن جل الاتفاقيات التي عقدت طوال الفترة الاستعمارية والمنظمة لنهر النيل كانت جزءا من اتفاقيات الحدود, وعليه فإنه لا يجوز التنصل من جزء من الاتفاقيات, علي اعتبار أن نقض هذه الاتفاقيات بكاملها, وهو ما تفعله دول المنابع, إنما يقوض الأساس القانوني لوجودها وبخاصة ما يتعلق بحدودها. ويختلف الوضع فيما يتعلق بإثيوبيا عن الاتفاقيات الاستعمارية التي عقدت نيابة عن أقاليم شرق أفريقيا ووسطها المتعلقة بمياه نهر النيل, ذلك أن معاهدة 15 مايو 1902 قد وقعها الإمبراطور منليك الثاني إمبراطور أثيوبيا( ولم تكن إثيوبيا مستعمرة) مع حكومة بريطانيا (نيابة عن مصر والسودان), وعليه فليس ثمة مبرر لرفض أثيوبيا الاعتراف بهذه المعاهدة إذ هي فضلا عما تقدم ليست اتفاقية استعمارية عقدت نيابة عنها من جهة, ثم أن هذه المعاهدة تحدد أجزاء من الحدود بين أثيوبيا والسودان من جهة ثانية, أضف إلي ما تقدم فإن أثيوبيا اعترفت بصحة اتفاقية 15 مايو 1902 بموجب مذكرات تبودلت بينها وبين السودان في 18 مايو 1972 لتسوية نزاع الحدود بين البلدين, كما إنها لم تطعن في صحة المعاهدة أمام لجنة الحدود بينها وبين اريتريا عام 2002 عند تحديد نقطة النهاية الغربية للحدود الإثيوبية الاريترية, وهذه النقطة ثلاثية, إذ تلتقي عندها حدود السودان وإثيوبيا وإريتريا. إذا كانت دول المنابع ليست في حاجة إلي المياه بكميات كبيرة وإذا لم يكن بمقدورها التأثير علي المياه, فضلا عن أنه لا يوجد لديها أي حق قانوني في التملص من التزاماتها القانونية السابقة, فلماذا الضجة المثارة في الفترة الراهنة من قبل هذه الدول؟ إن الإجابة عن التساؤل السابق تثير موضوعا آخر أكثر حدة بل هو يشكل أزمة حالة, إذ يبدو أن دول المنابع ومن ورائها بعض القوي الأجنبية, تحاول دفع كل من مصر والسودان إلي توجيه مجهودهما الرئيسي تجاه أزمة لم تولد (مياه النيل) في الوقت الذي يجري فيه العمل علي تفكيك السودان, ثم تهديد الوجود المصري برمته في مرحلة لاحقة قريبة.