قبل ظهور الفضائيات الخاصة ووسائل التكنولوجيا الحديثة والتواصل الاجتماعى كانت هناك مؤسسات مسئولة تقوم بدورها فى توعية الشباب وتشكيل الوعى المجتمعي، وكانت مهمتها هى تقديم الحقائق وتوضيح الأمور فى الجامعات والمساجد والمدارس والكنائس، كل حلقة تكمل الأخرى، اليوم اختلفت واختفت هذه الصورة وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعى من أهم المصادر الرئيسية فى تغذية الشباب والمجتمع بالمعلومات، أما مؤسسات بناء الوعى المصرى ودورها ومسئوليتها عن توعية المجتمع وتوضيح الحقائق فقد حان وقت عودة الروح إليها لتستعيد دورها التنويري. فى السطور التالية نسأل: ما هو الوعى المجتمعي، وكيف يتم بناؤه، وأين هى مؤسساته؟ الدكتور قدرى حفنى أستاذ علم النفس السياسى يقول: مصطلح الوعى المجتمعى، مصطلح مراوغ، لا تعريف محددا له، فماذا نعنى بالوعى المجتمعى؟ هل نعنى المعلومات العامة؟ أم نعنى متابعة الأمور الجارية؟ أم يعنى اتخاذ موقف بعينه مما يجرى؟ ويبدو أن التعريف الأخير هو الأقرب لمصطلح الوعى المجتمعى، أى أن المواطن الفرد يكوّن موقفا مما يدور حوله، ويتخذه إما بالإيجاب أو السلب، أو يتخذ موقفا محايدا. وبناء على التعريف الأخير، فإن الوعى المجتمعى لدى عموم المصريين، أو لدى الكتلة الأكبر كان ولا يزال مرتفعا، لهم موقف مما يجرى، وهذا الوعى لدى عموم المصريين لا ينطبق على النخبة، لأننا للأسف حتى الآن ليس لدينا مؤسسات لقياس الرأى العام، فالنخبة فى مصر تُصر على أن تظهر للناس أن رأيها هو رأى عموم المصريين، على حين أن الجمهور المصرى، ينتقى ويفرز ويستجيب لما يراه مفيدا، أو لما يراه صحيحا، ويولى ظهره لما تطرحه عليه إذا لم يجد صدى له. ويضيف أن مؤسسات تشكيل الوعى المجتمعي، هى كل مؤسسة يتم فيها الانصهار الاجتماعى فى التعليم فيستمعون إلى خطباء المساجد وترانيم الكنيسة، ولكن الأمر المهم أنهم لا يتلقون فقط، بل ينتقون وينتقدون، وإذا كان من واجب على النخبة لكى تستعيد دورها فى توعية الجماهير أن تدرس الجماهير أولا ولا تتعالى عليها، فالجماهير لم تختلف، ولكن من اختلف هى المنابر. الوعى المعلب الوعى المجتمعى كما يراه د. حسين أمين أستاذ الإعلام بالجامعة الأمريكية غائب منذ عام 1996 عندما بدأ بث الأقمار الصناعية فى مصر، حيث بدأ من هذا الوقت التلاعب بالعقول والتضليل الإعلامى والوعى المعلب، ولم يكن لدينا أى نوع من الاهتمام أو الرصد بما تقدمه هذه الأقمار، وحتى هذه اللحظة لم نقم بما هو واجب تجاه ما يبث، إذ علينا أن نبدأ الآن إذا كانت لدينا الرغبة فى رصد وتحليل ما يقدم على الشاشات وإعداد الخطط اللازمة لمواجهة ما يقدم، ومن هنا نستطيع تقديم الوعى المطلوب ومحاربة الشائعة فى مهدها، فنحن لدينا مؤسسات ومراكز تراقب الانتخابات وترصد وتحلل، فلماذا لا يكون لدينا مؤسسات ومراكز مجتمع مدنى تقوم بمتابعة ورصد وتحليل ما يقدم على الشاشات؟ ومن هنا يتم تشكيل الوعى المجتمعى، ولماذا لا تخرج بيانات بشكل دورى من المسئولين للرد على الشائعات أول بأول، فى كل الوسائل الإعلامية؟ ويضيف أن هناك مؤسسات كثيرة فى الدولة عليها مهمة هذا الوعى، فالأزهر بعالميته لديه هذه القدرة، وكذلك الكنيسة، وباقى المؤسسات التربوية والإعلامية، وينبغى أن نساعدها ولا تكون فى مرمى الهجوم عليها باستمرار، وقال إن تجربة مركز معلومات مجلس الوزراء فى الرد على الشائعات ودحضها ما زالت بِكرا لا نستطيع الحكم عليها الآن. فقر وأمية ويقول الأب رفيق جريش المتحدث الرسمى باسم الكنيسة الكاثوليكية إن قلة الوعى لدى المصريين سببها أن لدينا فقرا وأمية، وهذان سببان يمنعان من التزود الثقافى والاطلاع وشراء الكتب وبالتالى زيادة الوعي، فلدينا نحو 40% من المجتمع تحت خط الفقر. سبب آخر مهم أن مدارسنا وجامعاتنا ضعيفة تنتج تعليما ضعيفا، لا يشجع إطلاقا على البحث والقراءة والاطلاع، ومن ثمّ يصبح الوعى ضعيفا وسهل اختراقه بالشائعات، فنحن لم نسع إلى الاهتمام بالتعليم ليهتم فى جانب مهم منه بتشكيل الوعي، والتكوين الانسانى، ليكون رافدا مهما فى الثقافة والوعى وفتح مدارك أكبر. ويشير جريش إلى أنه يجب قبل اصدار أى قانون القيام بتوعية الجمهور المستهدف أولا. قانون الكنائس ويضرب الأب رفيق مثلا بعدم الوعى مؤخرا ما حدث لقانون الكنائس، ويصفه بأنه قانون عظيم، ولكن للأسف لم يحظ بتوعية، واقتصر على النخبة، بينما السواد الأعظم المعنيون به، لم يعرفوا عنه شيئا، بل تعرض لشائعات عديدة، بسبب عدم الوعي، وبسبب أن القائمين عليه لم يطرحوه مجتمعيا مما يشكل الوعى المطلوب عند إصداره. منظمة الشباب ويرى المستشار يحيى قدرى مؤسس تيار التنوير أن الاهتمام ببناء الوعى يجنب البلاد شرورا كثيرة، ومنظمة الشباب التابعة للاتحاد الاشتراكى فى الماضى كانت تقوم بهذا الدور من خلال المعسكرات التى تقيمها للشباب فى المحافظات، وكانت تستضيف كبار المفكرين والسياسيين والرياضيين والمثقفين وجميع المجالات لتوعية الشباب الذى يشكل القوة الضاربة فى المجتمع، ومع الوقت تراجع الاهتمام بمثل هذه الندوات والمؤتمرات التى ساهمت فى خروج قادة المجتمع بعد ذلك. وأضاف أن الأحزاب يقع على عاتقها القيام بهذه المهمة وتوعية الشباب فى كل المجالات من خلال إعداد محاضرات فى القضايا العامة والملحة على الساحة، كما أن الأندية الاجتماعية لها دور كبير فى هذه المهمة مثل أندية اللوينز التى يجب عليها توسيع نشاطها وتوجيه دعوات لشباب الجامعات والمدارس الثانوية لحضور لقاءات هذه الأندية مع المفكرين والسياسيين. وشدد على أنه لابد من عودة دور الثقافة الجماهيرية التى كانت تنتشر فى المراكز والقرى من أجل نشر الثقافة والوعى لدى المصريين. وشدد على أن الاهتمام بالثقافة والوعى ليس رفاهية، بل ضرورة ملحة مثل التعليم، وعلى الحكومة توفير ميزانية لهذا النشاط فى المدارس والجامعات ومراكز الشباب والأندية الاجتماعية، الأمر الذى يجنبنا أفكار التعصب والإرهاب ونبذ العنف، وأن نعود الشباب على إبداء الرأى حتى لو كان مخالفا لنا، ومن هنا يأتى دور الإقناع والتأثير فى الشباب. وناشد المسئولين توفير الميزانية المطلوبة لتوعية المصريين بما يحيط بهم حتى يكونوا صفا واحدا فى مواجهة الإرهاب والتطرف مع القائمين على الدولة. وزارات الرأى أما الدكتور حسن على أستاذ الإعلام ورئيس جمعية حماية المشاهدين والمستمعين والقراء، فيرى أن الحل يتمثل فى وضع الدولة لإستراتيجية إعلامية لها، فحتى الآن لا يوجد خطط واضحة لملف الإعلام فى الدولة، ولم يتم مناقشة قانون الإعلام الموحد وإنشاء مجلس أعلى للإعلام، بينما فى هذا الوقت الحرج الذى نمر به كان لابد من وجود تكامل بين وسائل الإعلام المختلفة سواء الحكومية أو الخاصة. حل آخر يطرحه أستاذ الإعلام وهو إنشاء لجنة وزارية تضم وزارات الرأى وذلك على غرار اللجان الوزارية، تابعة لمجلس الوزراء والتى تضم الوزارات الخاصة بملف الخدمات، واللجنة الخاصة بملف الإنتاج. ويقول: تستطيع هذه اللجنة أن تحقق التكامل المطلوب بين الوزارات المختلفة المعنية بتشكيل الرأى العام فى مصر وأن تشكل اللجنة منظومة تضم كل الجهات المعنية فلا يعمل كل منها فى جزيرة منفصلة، على أن تضم هذه اللجنة وزارات الثقافة والأوقاف والتربية والتعليم والتعليم العالى بجانب الأزهر والكنيسة وأجهزة الاعلام. المؤسسة التعليمية وتعد المؤسسات التعليمية واحدة من أهم مؤسسات بناء الوعى المجتمعي، ولكنها للأسف لا تقوم بالدور المنوط بها فى هذا المجال لعدة أسباب يوضحها الدكتور كمال مغيث الخبير والباحث بالمركز القومى للبحوث التربوية قائلا: على الدولة وصانع القرار أن يضعوا سياسات تعليمية واضحة، وأن يحددوا رؤيتهم وأهدافهم حتى يستطيع المستوى التنفيذى القيام بمهامه. فخلق الوعى فى المؤسسة التعليمية يعمل على مستويين الأول هو المستوى الفلسفى والثقافى والوطنى وهذا المستوى يتجاوز المواد الدراسية والمناهج ليصل إلى الفلسفة والأهداف العامة وهى أن يشعر الطلاب على اختلافاتهم الدينية والعرقية بأنهم جميعا مصريون وأنهم جزء من هذا الوطن. أما المستوى الثانى فهو تعظيم فكرة الثقافة ويخرج من المؤسسة التعليمية أجيالا من المثقفين وليس من الضرورى أن يكونوا أمثال طه حسين والعقاد، ولكن على الأقل يكون لديهم الثقافة التى تسمح لهم بالفهم والمناقشة والتفاعل مع الأحداث. ويقول: للأسف المؤسسة التعليمية لا تنفذ أيا من المستويين فى المرحلة الحالية وبخاصة مؤسسات التعليم قبل الجامعى فالطالب يذهب للمدرسة ومشغول بالدراسة فقط، أو بالأحرى مشغول بالدروس الخصوصية، وللأسف لا مجال للنشاط المدرسى الذى يدعم المستوى الثقافى والوطني. ويوضح أنه من المفترض أن تضع المؤسسة التعليمية فى اعتبارها أمرين الأول العمل على مهارات الطالب ومهنيته وهذا يتم بالمواد الدراسية والمناهج، ولكن هذا التلميذ لن يكون مجرد موظف أو طبيب، ولكنه سيكون مواطن فكيف نجهزه للمواطنة؟ وهنا يأتى الأمر الثانى وهو تعريف الطالب بالمجتمع الذى ينتمى إليه وسماته المتعددة، فإذا تحققت هذه المعايير يتحقق انسجام بين رؤية الدولة ومخرج العملية التعليمية وهو الطالب من مهنى ومواطن. مواجهة الشائعات من جانبه قال الدكتور محمد منظور رئيس جمعية من أجل مصر أن وسائل التواصل الاجتماعى أصبح لها نفوذ كبير وتحرك الرأى العام وهى العدو الأول لاستقرار الدول خاصةً خلال الفترة الأخيرة التى تحولت فيها إلى أداة للهجوم على مؤسسات الدولة ونشر الأكاذيب دون وجود رقيب، وطالب بأن يكون هناك انسجام وتناسق فى الأدوار من جانب الإعلام المصرى ووزارات الثقافة والشباب والرياضة والأوقاف حتى يتم التصدى للحروب التى تشن على مصر بهدف تفتيت قوى المجتمع من خلال نشر الشائعات, وشدد على أن الدولة تتحمل الجزء الأكبر فى قضية غياب مؤسسات بناء الوعى المصرى، فلم نعد نرى للدولة إنتاجا ضخما فى الأفلام والأعمال الدرامية التى تناقش قضايا الأمن القومى، وتعمل على توصيل رسالة معينة بعيدا عن المكسب والخسارة. وأضاف أن الاستثمار فى التوعية أمن قومى فلا يقل عن مواجهة الارهاب فى سيناء وتوفير رغيف الخبز، كما أن وزارة الأوقاف عليها دور كبير من خلال المساجد، فلابد من عودة الدور التنويرى للمساجد التى لم تنشأ للعبادة فقط، بل للتوعية وحث الناس على اتباع الخلق القويم والعمل على مواجهة كل ما يضر بالمجتمع.