1600 مليار متر مكعب من مياه الأمطار التي تسقط سنويا علي دول حوض النيل العشر نتركها تضيع في الفوالق الجبلية والمستنقعات والبخر, ثم نتشاجر حول84 مليارا فقط تصل إلي دولتي الممر والمصب مصروالسودان. ومازال الجدل مستمرا منذ أكثر من عشر سنوات عندما اقترحت القاهرة مبادرة حوض النيل للتعاون للاستفادة بأكبر قدر ممكن من الفاقد الذي يمثل96% من المياه الساقطة علي الحوض بتنفيذ مشروعات مشتركة وانشاء هيئة مشتركة لإدارتها وتبادل المعلومات مع تأكيد حق كل دولة منها في مياه النهر وعدم قيامها بالإضرار بحقوق الأخري أو المساس بالحقوق التاريخية المكتسبة لها أو نقل المياه أو بيعها إلي خارج الدول العشر. إذا اتفقنا في مؤتمر وزراء مياه دول الحوض المنعقد في شرم الشيخ اليوم وغدا حول النقاط الثلاث المتبقية في مشروع اتفاقية حوض النيل وتعاونا معا واستفدنا بجزء من المياه الضائعة سيحق لنا أن نستمتع مع شاعرنا الرقيق محمود حسن إسماعيل ليس فقط بسماع ماقالت الريح للنخيل في شطه الجميل وإنما أيضا بتغريد البلابل الأخري في الحدائق والمروج الغناء التي ستتوافر المياه لزراعتها في الصحاري الجرداء, ولن يموت وقتها إنسان من الجوع أو يهد عافيته سوء التغذية, بل يمكن أن نري خيال شاعرنا الراحل وقد تحول إلي حقيقة برؤية حدائق أغصانها مثل صبايا شربن من خمرة الأصيل. المياه وفيرة.. والغذاء قليل! النهر الخالد كما وصفه محمود حسن إسماعيل عمره12 ألف عام, وطوله6695 كيلو مترا, ومساحة دول حوضه تعادل10% من مساحة افريقيا.. كمية المياه الساقطة علي حوضه تكفي احتياجات سكانه مرتين ونصفا علي الأقل إذا أحسن استغلالها, والأراضي القابلة للزراعة فيه تقدر مساحتها ب450 ألف كيلو متر مربع تكفي, إذا توافر لها نصف المياه الضائعة فقط, لتوفير الغذاء لضعفي شعوب دولها العشر, فقط يحتاج الأمر إلي اتفاق للتعاون لتنفيذ مشروعات تنقذ بعض مليارات الأمتار الفاقدة وتستخدمها في الزراعة والصناعة وتوليد الكهرباء المحروم منها70% علي الأقل من السكان باستثناء مصر. يسقط علي الهضبة الإثيوبية800 مليار متر مكعب من مياه الأمطار لا يصل منها إلي النهر سوي60 مليارا, وفي حوض بحر الغزال وحده في جنوب السودان يسقط212 مليار متر مكعب سنويا لايصل منها إلي مجري النيل سوي500 مليون متر مكعب أي3% فقط بسبب الحشائش والمستنقعات, وايراد بحيرة فيكتوريا السنوي114 مليار متر مكعب يضيع منها هباء93 مليارا ويضل الطريق92% من مياه نهر كاجيرا في رواندا و20 مليارا من بحيرة كيوجا, و7.6 مليار من بحيرة ألبرت, أما الأمطار الساقطة علي مصر فلا تتجاوز كميتها1.3 مليار متر مكعب سنويا. خلافات قليلة وخسائر كبيرة! نقاط الخلاف الثلاث التي مازالت تعطل التوصل إلي اتفاق تنحصر في الإخطار المسبق من أية دولة من دول المنبع لدولتي الممر السودان والمصب مصر بأي مشروع مائي أو كهربائي من شأنه التأثير بالنقصان علي حقوق مصر التاريخية المكتسبة بمقتضي معاهدة1929 واتفاقيات1891 و1902 و1906 و1959, خاصة اتفاقية1929 التي تعطي القاهرة حق الفيتو علي أي مشروع, فمصر تريد أن تتضمن الاتفاقية الجديدة نصا صريحا بعدم المساس بحقوقها التاريخية وحصتها المائية التي حددتها اتفاقية1959 طبقا للقانون الدولي, بينما تطالب دول المنبع بإلغاء اتفاقية1929 بدعوي أن الاستعمار البريطاني هو الذي وقعها مع مصر نيابة عن الدول المحتلة, وبالتالي فهي ليست ملزمة لها من وجهة نظرها, أما نقطة الخلاف الثانية فتدور حول كيفية اتخاذ القرارات من جانب الهيئة المفوضية المزمع إنشاؤها.. دول المنبع تريد أن تكون بالأغلبية, لكن مصر ومعها السودان تصران علي أن تتخذ بالاجماع أو بالأغلبية شريطة أن تكون القاهرة والخرطوم ضمن الأغلبية حتي لا يتم اتخاذ قرارات تضر بحقوقهما, ونقطة الخلاف الثالثة حول عبارة الأمن المائي لأنها تتضمن الاعتراف بحقوق مصر والسودان التاريخية في استخدام مياه النيل وضرورة التزام دول المنبع بإجراءات البنك الدولي التي تقتضي ضرورة موافقة دولتي الممر والمصب علي أي إجراء تتخذه أي منها وهو مالا توافق عليه دول المنبع حتي اللحظة. المنطق والقانون مع مصر مبرر مصر بالتحديد في هذا الموقف هو أنها ليس لها مورد مائي آخر غير النيل عكس بقية دول الحوض, فهي تعتمد علي مياه النهر بنسبة95%, بينما تنخفض نسب اعتماد اثيوبيا إلي1%, وكينيا إلي2%, وتنزانيا إلي3%, والكونغو الديمقراطية إلي0.1% وبوروندي إلي5% والسودان إلي15% بسبب كثافة هطول الأمطار علي أراضيها. فقد انخفت نصيب المواطن المصري من1893 مترا مكعبا عام1960 إلي740 مترا عام2007, ومن المتوقع أن يقل إلي582 مترا فقط عام2025 مع تزايد عدد السكان إذا لم يتم التعاون لتنمية موارد مياه النهر لصالح كل دوله وشعوبها. وقعت مصر اتفاقية مع أوغندا عام1991 تضمن حقوقها التاريخية واتفاقية أخري مع أثيوبيا عام1993 تنظم التعاون في مياه النيل وتنص علي عدم إضرار أي منهما بالأخري وبحث استخدام مياهه طبقا لقواعد القانون الدولي, وتستند مصر في موقفها إلي المعاهدات الدولية أيضا. فمعهد القانون الدولي أقر عام1961 قواعد عامة لإدارة مياه الأنهار العابرة للدول تنص علي إقرار مبدأ الحقوق التاريخية المكتسبة في الموارد المائية وعدم المساس بها وأن مياه الأنهار مورد طبيعي مشترك لا يخضع لسيادة دولة بمفردها وتسوية النزاعات سلميا والتفاوض والتعاون بشأن المشروعات المقترح إقامتها علي النهر وروافده. وتلك اتفاقية فيينا لعام1978 الخاصة بالتوارث الدولي للمعاهدات والاتفاقيات تؤكد هي الأخري هذا الحق, وبناء عليه أقرته محكمة العدل الدولية عام1997 في نزاع مماثل بين المجر وسلوفاكيا. الاتفاقيات الاستعمارية سارية وبناء علي ما أقرته المعاهدات الدولية تظل كل الاتفاقيات التي تم توقيعها خلال حقبة الاستعمار نافذة المفعول, حكمها حكم الحدود الموروثة عن الاستعمار لا يجوز تعديلها أو إلغاؤها إلا بموافقة كل الأطراف, ففي عام1891 وقعت بريطانيا وايطاليا اتفاقية تعهدت فيها الأخيرة بعدم إقامة أي منشآت علي نهر عطبرة يمكن أن تؤثر علي مياه النيل وذلك خلال احتلالها اثيوبيا, وفي عام1902 وقعت بريطانيا مع أثيوبيا اتفاقية تقضي بعدم إقامة أي سدود أو مشروعات علي النيل أو بحيرة تانا أو نهر السوباط دون موافقة بقية دول الحوض, وفي عام1906 وقعت بريطانيا التي كانت تحتل مصر مع إيطاليا وفرنسا اتفاقية ينص بندها الرابع علي أن تعمل معا لتأمين دخول مياه النيل الأزرق وروافده إلي مصر, وفي عام1929 وقعت بريطانيا نيابة عن الدول التي تستعمرها اتفاقية مع مصر تعطي القاهرة حق الفيتو علي أي مشروع تقيمه احدي دول المنبع من شأنه خفض كمية المياه القادمة إليها, وفي عام1959 وقعت مصر والسودان اتفاقية تحدد حصة كل منهما من المياه بمقدار48 مليار متر مكعب لمصر و4.5 مليار للسودان, زادت بعد إنشاء السد العالي إلي14 مليارا للسودان و55,5 مليار لمصر. فهل نضع اليوم المصلحة المشتركة لدولنا فوق المصلحة الفردية التي يسعي إليها البعض أم نظل نجادل ونتعارك علي القليل الذي بأيدينا ونترك الكثير يضيع بلا أي استفادة وعند ذلك لانبالغ إذا سمينا النيل النهر الضائع وليس الخالد كما نعته محمود حسن اسماعيل؟.