عادة ما تخطفنا القصيدة الجميلة بفضل براعة كاتبها في اقتناص لحظة ما، بصرية أو شعورية، ومفاجأتنا بها. مفاجأة شعرية لو صح التعبير. وأظن أن خالد أبو بكر واحد من هؤلاء الشعراء الذين تبدو قصائدهم كأنها مفاجآت شعرية. ............................................................... في ديوان «يحمل جبلا بين كتفيه»، الصادر عن دار العين للنشر، يفاجئنا خالد أبو بكر، ليس فقط بمهارته الشعرية في اقتناص لحظات خاصة وجدانية وإضاءتها بوهج أو «فلاش» شعري بالغ الحساسية. بل وأيضا بقدرته على استخدام نبرة صوت مفاجئة. قد تبدو أحيانا كصرخة غاضبة أو ساخرة بينما بها يستخلص لنا لحظة مشاعرية بالغة الحساسية. كيف تعبّر عن الحنان بالغضب؟ أو تعبّر عن الفقد بالسخرية، وعن العجز بادعاء التعالي؟، هذه فيما أزعم بعض سمات قصائد هذا الديوان. بل ربما ايضا كيف تعبر عن تناقض علاقة الأبوة بين المحبة والتمرد، أو اكتشاف الحب في علاقات قد تبدو في جوهرها أنها تفتقد للحب أو الحنان. في قصيدة بعنوان «المؤامرة»، يقتنص الشاعر لحظة فقد الأب مثلا على النحو التالي قائلا: قبل موت أبي مباشرة/ كنت الوحيد الذي أدرك/ أنه جف كورقة نعناع/ لأن زكاء الرائحة فاض على الغرف الأخرى/ وقبلها بنصف ساعة/ ظلّ عشرون ملاكا / يخطئون التصويب على صدره/ وأنا بالفعل / لم أكن لأرى السهام/ لو لم تصطدم يده بزجاجة المصباح/ فأضاءت الغرفة لثوانٍ ثم أظلمت». هذه إضاءة لصورة شعرية بليغة وحسّاسة كأنها ومضة شعرية، تحمل دلالات عاطفية كثيفة. وأحيانا تتكون القصيدة من مقاطع سردية ليست متعاقبة، أي لا يبدو لقارئها أنها ترتبط ببعضها البعض لكن سرعان ما تنبثق فكرة قد يرى فيها القارئ رابطا لمشاهد القصيدة. كأن هذه المقاطع ليست سوى غيوم شعرية أو سحب لا تكشف عما في باطنها حتى تباغت الجميع بما تحمله من مطر فجأة، مطر القصيدة. في قصيدة «القصاص» يقول الشاعر: «بمعاطف معدّة لمفاجآت المطر/ لن نلتصق ثانية بجدار منزل/ وحين تشف سيارة مسرعة/ بركة ماء/ لن نقوس أجسادنا للخلف/ مذعورين/ بل سنسير/ كأن شيئا لم يكن/ وربما احتفظنا ببقعِ الوحل لعام قادم/ كي نتذكر / كيف يكون الواحد صلبا/ في مواجهة العالم». «بجسدي هذا / اصلح كفخ للآخرين:/ مثلا قد يظنني سائقا / ظل رجل عبر الشارع لتوه/ فيدوس فوقي/ بل إن أناسا كثيرين/ قد يظنونني مشجبا/ فيعلقون علي / ثيابهم القديمة ويرحلون». «لن يكونوا جديرين/ بزيارةٍ أخرى/ ارتباكهم المزري/ لمجيء صديقي الأعمى/ ونهرهم الخادم/ كي ينتهي من إحضار القهوة/ ثم هذا الارتياح ونحن نغادر/ سأثرثر / كلما اصطدمت يده بالفراغ/ وبعد أيام/ سأكون منهارا تماما لموته/وأنا ألوح بعصاه في وجوههم وسأقسم – أنني لن اكون هناك وهم يسقطون». يبدو هنا في هذه القصيدة جليا محاولة الذات الشاعرة في تأمل ذاتها، السخرية منها، ونقد الآخر أعمى البصيرة، وتصوير شعري عن الفردية في مجتمع أعمى وأناني، لا يرى ذاته، ولا يريد. وتتوزع مهارات الشاعر ما بين استخدام المشهدية، كأنما يصف مشاهد سردية بطاقة شعر مكثفة وذكية، أو التنويع بين ما قد يبدو وصفا مباشرا لمشهد أو موقف لا يحتمل سوى ما يقال ويوصف، وبين المعاني المجردة التي قد تحتمل تأويلات عديدة. كما يمزج بين مشاهد تبدو كابوسية وعبثية وبين مشاهد يمكن وصفها بالكوميديا السوداء في براعة. في قصيدة «إثر مطر هائل يقول:»بامتداد الشاطئ/ لا شىء سوى هذه الأعين/ غافلت أصحابها/ وبقيت هنا..تحدق في الماء/ يعزف واحد لحن ميلاد السنة/ فنبكي/ واحدٌ في البيت المقابل / لا نكاد نراه من الضباب/ وسنةٌ/ تحمل لنا المزيد من النور/ والأبواب التي سُرقت مفاتيحها/ كيف لا نلمس نحن ايضا أصابع البيانو ونبكي؟/ الضحكات: انهيارات مؤجلة حتى النهاية». يضم الديوان قاموسا به بعض المفردات التي تتكرر أكثر من غيرها مثل الطمأنينة والملاك والملائكة والأشجار. وعادة ما تتمثل في القصائد محاولات لمزج الماورائي أو الحلمي أو الكابوسي غير المرئي بالواقعي اليومي. وهذا في تقديري ربما ما يميز قصيدة خالد ابو بكر إجمالا عن أغلب قصائد جيله التي كانت تبحث عن الشعرية في المشهد اليومي. والحقيقة أن هذا الكتاب يضم ديواني شعر متتابعين: الأول بعنوان «كرحم غابة»، وهو ديوان سبق صدوره للشاعر خالد أبو بكر قبل فترة طويلة، إضافة إلى ديوان جديد بعنوان «حين نتخيلهم كملائكة». وأغلب قصائد الديوان الجديد لا تزال تمثل بالفعل امتدادا لقصيدة خالد أبو بكر كما تجسدت في الديوان الأول «كرحم غابة». المشهدية والسخرية، نبرة الصوت التي تبدو غاضبة لكنه غضب ساخر. الوجداني مطمور تحت طبقة السخرية فيأتي من فرط المفاجأة رهيفا وشعريا. المعجم الخاص والصور الشعرية التي تمزج بين بعض مفردات الطبيعة وبين الفرد ومظاهر الحياة اليومية. أظن أيضا أن هذه القصائد تتسم بسمة شديدة الأهمية أنها لا تشبه غيرها. لا يمكن أن تختلط نبرة صوت هذه القصائد في حدود خبرتي بالشعر المعاصر، مع قصائد مجايليه، إضافة لأنها تقدم ليس فقط خبرات ذاتية، بل يمكنها أن تضىء للقارئ خبرات عامة لكن يتم التعبير عنها بطريقة لها طابع شعري خاص.