البذرة والأساس فى كل شىء هو وجود الرؤية، وهى التى يسميها الفلاسفة بالعلة الغائية، وهى التى تفرز كل ما يتقدمها ويسبقها من إجراءات وخطوات تنفيذ، يمكن من خلالها الوصول إلى تلك الغاية، ويمكن أن تظل هذه الرؤية -بعد إدراكها ومعرفتها- شعارا معلقا فى الهواء، أقرب إلى الأمانى والرغبات والأحلام، يحسن الإنسان الحديث عنه، ويكثر من الكلام حوله، ويتعلق به، لكنه لا يتكلم فيه، وفى إجراءاته، وفى الطرق الآمنة والحقيقية والصادقة التى توصل إليه، فيأتى هنا دور القدرة على التنفيذ، ومهارات الإدارة الفعالة الناجحة، لتحويل الإرادة إلى إدارة، مع عشرات الخبرات التى تتعلق بالموارد البشرية، وتسكين كل خبرة وموهبة فى مكانها الصحيح، وتذليل المعوقات والعقبات التى تعترض ذلك، مع توفير كل متطلبات العمل، والقدرة على متابعة سير ذلك كله. وأقرب مثال لذلك هو لاعب الأكروبات الماهر، الذى يلعب لعبة موازنة الأطباق الدوارة، (plate spinning) التى يحافظ فيها على الأطباق وهى تدور فوق قمة أعواد رفيعة، وتكون براعته وإجادته فى المقدرة على إبقائها جميعا تدور فوق قمة تلك الأعواد دون أن يسقط واحد منها، إن فن تحويل الرؤى والمقاصد والغايات إلى عمل ملموس ونتائج متحققة يشعر بها الناس أمر مركب، وله منظومات كاملة من العلوم الخادمة له، وله خبراء ومؤسسات كبيرة تقوم على تدريسه وتنفيذه، ومتابعة معايير الجودة والحوكمة فيه، وبدونه يظل العمل كلاما جميلا، وشعارات براقة، وكلمات مجوفة، ليس من ورائها أدنى طائل. وأرى أن المؤسسة الدينية بكل قطاعاتها تفتقد ذلك، رغم ما تمتلكه من علوم جليلة، وكنوز معرفية، ومناهج علمية رصينة، اقتدرت على مدى قرون أن تصنع رجالا شوامخ، وقامات وطنية ومعرفية، وشيوخا أجلاء أتقياء، أمناء على الدين والإنسان والوطن والعلم، ومؤسساتنا الدينية ما زالت إلى هذه اللحظة حائرة، ترى الأهداف أمامها واضحة، لكن المسالك والطرق التى توصل إلى تلك المقاصد غائبة تماما، أو ضبابية، أو مختلطة، أو ملتبسة. وقد مضت شهور وأعوام والشعب المصرى الكريم يلحُّ ويستغيث ويرجو ويتطلع، إلى أن تسعفه المؤسسات الدينية بما يدرأ عنه الخطر، ويجابه تغول تيارات التطرف والتكفير والقتل، التى ما زالت طائشة ومندفعة هنا وهناك فى أنحاء العالم، تعتدى على حرمة الدين، وتختطفه، وتنحرف بتأويله، وتلصق به كل دمار وقبح ورعب وخراب، وتفعل ذلك بكل عنفوان، وتجرى بكل سرعة وقوة فى نشر ذلك وترويجه وتسويقه وإغراق الفضاء الإلكترونى به، وتحويله إلى تنفيذ على أرض الواقع، يهدد الوطن والمؤسسات، ويلقى الرعب فى أوربا وأمريكا، ويشوه صورة الدين، فى الوقت نفسه الذى تظل فيه المؤسسات الدينية بمختلف قطاعاتها فى مصر غارقة فى قضية الخطبة المكتوبة، أو فى إصدار الوثائق، أو إنشاء الأكاديميات، أو فى إطلاق المؤتمرات الصحفية العالمية التى لا تسفر عن أى نتيجة حقيقية. إن مؤسساتنا الدينية الكريمة بكل جلالها لم تحقق أدنى تقدم فى ذلك كله، مع كامل الاحترام لكل ما تبذله من جهود، لكنها جهود فى الاتجاه الخطأ، مما دفع السيد رئيس الجمهورية أن يصرح تصريحا فى احتفال ليلة القدر بقوله: لماذا لا نتصدى؟ وبقوله: إن التطرف والغلو إلى الآن لم نقدر على إيجاد سبيل لمجابهته. ولا أنسى تلك اللمحة النبيلة الشجاعة من سيدنا عبد الله بن عباس، والذى هو باكورة المؤسسات الدينية فى زمانه، حينما تجرد وانبعث من نفسه إلى مناظرة الخوارج، الذين هم بذرة فكرة الإخوان وداعش فى عالمنا المعاصر، فقال لعلى بن أبى طالب: (يا أمير المؤمنين! أبرد بالصلاة لعلى ألقى هؤلاء القوم، فقال: إنى أخافهم عليك! قال: قلت: كلا!)، فابن عباس هنا يسبق بقية مؤسسات المجتمع الإدارية بخطوات، حتى إن تلك المؤسسات هى التى تطالبه بالتمهل، وتخشى عليه المواجهة، لكنه كان جريئا جسورا، واثقا من ذاته، مدركا للقدرات الذاتية التى يمتلكها، مدفوعا بإدراك دوره ومهمته، وامتلاك أدوات تنفيذه، والقدرة على تحويل الرؤية التى عنده من إرادة تساوره وتخطر له إلى إدارة ناجحة وقادرة على الإنجاز، ولم يتأخر إلى الحد الذى تستبطئه وتفتقده فيه كل المؤسسات، ويستصرخه فيه الناس فلا يجدونه، ويرون ويرى هو معهم الخطر محدقا، تشتعل نيرانه ويتطاير شرره، ثم يظل واقفا فى مكانه. (وللحديث بقية). لمزيد من مقالات د.أسامة السيد الأزهرى