وفد من جامعة عين شمس في زيارة لجمعية المحاربين القدماء    مدير التأمين الصحي بالشرقية يتفقد وحدة الكلى بمستشفى المبرة    إعلان الكشوف النهائية للمرشحين بنقابة الصحفيين الفرعية بالإسكندرية اليوم    ضمن مبادرة "بداية جديدة".. لجنة أزمات بيت العائلة المصرية بأسيوط تنظم ندوة ترسيخ الهوية الوطنية    البورصة المصرية تستهل تعاملاتها بتباين جماعي لكافة المؤشرات    طاقة الشيوخ توافق على خطة عمل دور الانعقاد الخامس    كيف حدد القانون شروط التمويل العقارى    الإسكان تكشف تفاصيل ملف مصر لجائزة أفضل مشروع سكني عربي    رينو تكشف عن سيارتها 4 E-Tech Electric الكهربائية    وزير الدفاع اللبناني: نتمسك ببقاء القوات الدولية في الجنوب    40 قتيلا وجريحا بضربة روسية على إدلب السورية    اتحاد الكرة: مكافأة خاصة للاعبي منتخب مصر.. وسنتأهل إلى كأس العالم    حصاد محمد صلاح في الدورى الإنجليزى قبل الجولة الثامنة.. 8 مساهمات تهديفية    وفاة شخص وإصابة 12 آخرين في تصادم على "صحراوي الواحات"    السكك الحديدية تسلم قائد قطار للشرطة بعد ثبوت تعاطيه المخدرات    تحرير 5 محاضر ل«مخالفات تموينية» في حملات على أسواق قلين بكفر الشيخ    تجديد حبس عامل متهم بالتحرش بطفلة في بدر    تعيين أحمد غنيم رئيساً تنفيذياً للمتحف المصري الكبير    وفاة والد الفنان مصطفى هريدي.. والجنازة في المهندسين    "المال الحرام".. أحمد كريمة يرد على عمر كمال والأخير يعلق    من هو رئيس المخابرات العامة الجديد خليفة عباس كامل؟    جامعة سوهاج تستضيف خبيرًا عالميًا في جراحات القلب    تداول 12 ألف طن و730 شاحنة بضائع بموانئ البحر الأحمر    المندوه يحفز لاعبي الزمالك والجهاز الفني قبل السفر للإمارات    موعد مباراة الأهلي وسيراميكا في كأس السوبر المصري    «إنت بتأذي ابنك».. رسائل نارية من شوبير إلى ياسر ريان    التابعي: الأهلي يخسر أمام سيراميكا في هذه الحالة.. ورحيل زيزو عن الزمالك "مرفوض"    أحمد عيد يطير إلى المغرب للانضمام لمعسكر المصرى استعداداً للموسم الجديد    السكة الحديد تعلن تأخيرات القطارات المتوقعة اليوم الخميس    الري تطلق الحملة القومية "على القد" للحفاظ على المياه    محافظ أسيوط يتفقد مدرستي الجامعة الثانوية بنات والجامعة الإعدادية المشتركة    وزير الري يلتقي مدير مكتب مصر ببرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية    "صرف الإسكندرية" تعلن حالة الطوارئ استعدادًا لأول نوة    بالمستند... التعليم: مهلة أخيرة لتسجيل بيانات الحقل التعليمي حتى 20 أكتوبر    أخوة وشراكة.. آخر مستجدات تطوير العلاقات الاقتصادية المصرية السعودية    البنتاجون: أوستن ناقش مع نظيره الإسرائيلي خطوات معالجة الوضع الإنساني في غزة    محمد هنيدي يكشف أسرار مشواره الفني مع أنس بوخش    حفلات ال"ويك إند".. ريهام عبد الحكيم وتامر عاشور وأحمد سعد ومدحت صالح بالأوبرا وحمزة نمرة بأمريكا    قائد الحرس الثوري الإيراني يتوعد إسرائيل في جنازة عباس نيلفروشان: الوعد الصادق 2 مجرد تحذير    انفوجراف.. الأزهر للفتوى: تطبيقات المراهنات الإلكترونية قمار محرم    خبير: هجمات 7 أكتوبر أدت لتصدع نظريات الأمن والردع الإسرائيلي    بالمستند.. التعليم توجه المديريات بصرف 50 جنيهًا للحصة لمعلمي سد العجز    توقيع الكشف الطبي على 1260 حالة بالمجان خلال قافلة بمركز سمالوط    وزير الصحة: اعتماد البرنامج العلمي لمؤتمر السكان والتنمية من المجلس الصحي المصري    رئيس جامعة القاهرة يوجه بسرعة إنجاز الأعمال بالمجمع الطبي للأطفال    جدول ترتيب هدافي دوري روشن السعودي قبل انطلاق الجولة السابعة    صرف الإسكندرية: رفع حالة الطوارئ استعدادًا لأول نوة    نتنياهو يوافق على مجموعة أهداف لضربها داخل إيران    وزير الري يشهد إعداد مشروع إقليمي في مجال التحلية للإنتاج الكثيف للغذاء    تقسيم ذهب الأم بعد وفاتها: الأحكام الشرعية والإجراءات    طرح البرومو الرسمي لفيلم "آل شنب".. وهذا موعد عرضه    بايدن يقدم مساعدات عسكرية إضافية لأوكرانيا ب 425 مليون دولار    هل يجوز تأدية صلاة الفجر بعد شروق الشمس.. الأزهر يوضح    5 أدعية نبوية للحماية من الحوادث وموت الفجأة.. بعدانقلاب أتوبيس الجلالة وقطار المنيا    أول تعليق من نجوى كرم بعد أولى حلقات «Arabs Got Talent».. ماذا قالت؟    عاجل.. تركي آل شيخ يعلن عودة يوسف الشريف للدراما بعمل درامي ضخم    إصابة 6 أشخاص فى حادث تصادم سيارة بتوك توك في أسوان    قوى خفية قد تمنحك دفعة إلى الأمام.. توقعات برج القوس اليوم 17 أكتوبر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسرار العوالم السفلية
نشر في الأهرام اليومي يوم 16 - 07 - 2016

هناك طقوس للاسترضاء تقوم بها الجماعة الشعبية لتتقي بها أخطارًا يُعتقَد أنها تهدَّد حياة أفرادها منذ لحظة الميلاد وحتى ما بعد الموت، هذه الأخطار المتوهَّمة ناتجة عن الاعتقاد بأن محيط الجماعة محاط بصفة دائمة بكائنات غير منظورة «فوق طبيعيَّة»، ذات طبيعة طَيْفيَّة؛
تتسبَّب في إصابة بعض الأفراد بعدد من الأمراض ذات الطبيعة السحرية، إذ يُعتقد بعجز الطب الحديث عن مداواتها، وبأنه ينبغي لتفادي هذا الايذاء القيام ببعض الطقوس لاسترضاء هذه الكائنات، هذه الطقوس التي تختلف خطواتها حسب كل مرحلة من مراحل دورة الحياة «ميلاد، زواج، موت»، وكذلك حسب كيفية إصابة الفرد بذلك «الأذى».
ولا يتوقف الاعتقاد لدى الجماعة الشعبية عند حَدِّ تصوُّر وجود أفراد في ذلك العالم الخفي، يماثلون عدد ونوع وعُمر أفراد كل بيت، بل يُعتقد أيضًا أن في ذلك العالم الذي لا يُرَى رَأْيَ العين، وإن كانت أخطاره ماثلة للعيان، وجود مثيل متطابق، للأنظمة الاجتماعية القائمة بالمجتمعات الشعبية، وكذا وجود التراتب الوظيفي لأعضائها. وهذا تصور يكشف عنه بوضوح نَصَّان لاستحضار الجان وصرفه ضمن طقوس«الرَّضْوَة»، فقد ورد ضمن هذين النصين اللذيْن يتوجَّهان بالحديث مباشرة مع هذه الكائنات غير المنظورة، ذِكْرُ «العُمدة» و«القاضي» و«شيخ الخفر»، وهو تقسيم يتفق مع ما ذهب إليه الأنثربولوجيون بأن «المعتقدات الخاصة بعالم القوى الخارقة (فوق الطبيعية) ما هي إلا عملية تحوير لحياة الإنسان الاجتماعية، بل إن هذه المعتقدات تتشكَّل- إلى حدٍّ ما- وفقًا لنظامه الاجتماعي».
والملاحظة اللافتة للنظر هي وجود الثنائيَّات في التصورات الخاصة بهذه الكائنات، فلكلِّ مُسمًّى منها ما يقابله، بحيث يكون أحدها دافعًا للخير والآخر للشر، فالملائكة الدوارة تنقسم إلى أهل يمين وأهل شمال، والقرائن يقابلها «الأخوات»، والعفاريت يقابلها «الجان»، ويرجع هذا التقابل إلى فكرة الثنائيَّات التي لازَمَت العقلية البدائية منذ طفولة البشرية، لتقوم بوظائف تعليمية ووعظية وإرشادية أيضًا.
الملائكة الدوَّارة
من هذه الكائنات الخفية ما تطلق عليه الجماعة الشعبية «الملائكة الدوَّارة»، وتسمى عندهم أيضا ب «حرس الليل»، وذلك لأنه يعتقد أنها تدور في القرى كل ليلة لتحرسها، ولكي تمارس ذات الأعمال التي يمارسها أفراد الجماعة، كما يعتقد بوجود عدد من هذه الملائكة، في كل بيت، يماثل عدد أفراده، ويشابهونهم أيضا في الصفات والأمزجة، وهؤلاء الملائكة يسكنون بالبيت، ويأكلون من طعامه من دون أن ينقص، ذلك لأنهم يتركون بركتهم في أواني الطعام والشراب. مع أن الملائكة- في المفهوم الديني- لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناسلون.
وتنقسم الملائكة الدوَّارة عند الجماعة الشعبية إلى «أهل اليمين»، ويقابلها «أهل الشمال»، التي تسعى لإيذاء الإنسان. وفضلاً عن هذه الملائكة، فإنه يعتقد بوجود ملائكة «العدل» التي يقابلها أيضا ملائكة «العكس»، كما يعتقد أن الملاك الدافع للخير يقف على الكتف اليمين للفرد، بينما يقف الملاك الدافع للشر على الكتف الشمال، والتعبيرات المتداولة تدلُّ على هذا الاعتقاد القائل بامتلاء الحياة بالملائكة، ومنها:«الدنيا ملوكه» وأيضا: «الملايكه ماسكين البيبان»، بمعنى أن ملائكة تسيطر على كل أنحاء الأرض ومناحي الحياة، خاصة أبواب البيوت وعتباتها- وهو تصوُّر منتشر لدى معظم المجتمعات- حيث يصبح على الفرد التحرز والاحتراس في تحركه بالأماكن المهجورة- تحديدًا- فلا يأتي من الأفعال ما يُغضب هذه الملائكة المسيطرة، مما يستلزم تلاوة عدد من الصيغ السحرية، عند مروره بهذه الأماكن، دفعًا للضرر المحتمل.
وربما كان الاعتقاد بوجود عدد هائل من هذه الموجودات غير المنظورة والمسيطرة على مناحي الحياة من بقايا ذلك الاعتقاد المصري القديم القائل بوجود عدد هائل من الآلهة المصرية التي تتجاوز ألفَيْ إله، وهو تصوُّر تطوَّر فيما بعد نتيجة لوجود عبادة آلهة الأقاليم، جنبًا إلى جنب عبادة الفرعون.
الملاك الحارس والتوائم
ثمة اعتقاد بأن الملائكة الدوارة تحمل أرواح أصحابها وهم نيام، وتجوس في القرى لتمارس حياتها ليلاً كما يفعل أصحابها نهارًا. فإذا ما اعتدى أحد عليها بالضرب يتألم صاحب الروح النائم في سريره.
ويرتبط الاعتقاد بوجود الملائكة الدوارة بذلك الاعتقاد القائل بأن «الروح»، تفارق الجسم أثناء النوم، وتهيم متجولة بعيدًا عنه، فإذا اتفق وحدث شيءٌ للروح فلن يستيقظ النائم، وقد يُصاب بالمرض. وبالرغم من أن مفارقة الروح للجسد أثناء النوم من المعتقدات الدينية الثابتة بنص القرآن الكريم، إلاَّ أن الجماعة الشعبية تتصور أنَّ هذه الأرواح التي تفارق أصحابها ليلاً عادةً ما تتلبَّس جسد أحد الحيوانات الضالة، ولهذا لا تجرؤ امرأة من الجماعة أن تهش قطة تعبث بآنية المطبخ ليلاً. فإذا ضربتها بعصا، فإن هذه المرأة تصحو من نومها في الصباح، لتجد ذراعها «مشكولة»: بمعنى مصابة بما يشبه الشلل المؤقت، نتيجة تعدِّيها على «الملاك الحارس»، ولا تشفَى ذراع المرأة من إصابتها هذه إلاَّ بعد أن تقوم بعمل طقوس «الرَّضْوَة» لكي ترضى عنها الملائكة التي أغضبتها. إذ يُعتقد أن هذه القطة أو هذا الكلب روح ملاك حارس ليلي، ضمن الملائكة الدوَّارة.
وفكرة الأرواح الهائمة في هيئة ملائكة حارسة هي من الاعتقادات الذائعة في المجتمع المصري بعامة، وهو اعتقاد يُنسب حدوثه الدائم لتوائم الأطفال، إذ يُعتقَد أن الطفل الثاني من التوأم إذا أحَسَّ بالجوع وهو نائم تخرج روحه، بعد أن تتلبَّس جسد قطة، وتعبث في حجرة المطبخ، بالبيت الذي يوجد به، أو بواحد من بيوت جيرانه، بحثًا عن طعام. ولابد أن تواتر هذه الحكايات التي تدور حول التوائم، بما تتضمَّنه من معتقدات خرافية، هي نتاج خوف الإنسان البدائي من هذه الظاهرة بوصفها خارجة عن المألوف، فهذه المعتقدات من البقايا المترسبة عن الماضي، حين لم يكن باستطاعة الإنسان الحصول على إجابات شافية تفسر غموض الظواهر الطبيعية وغيرها.
أما اقتصار هذا الاعتقاد على الطفل الثاني من التوأم، وليس الأول، فمَرَدُّه إلى فكرة بسيطة هي الاعتقاد بأن الطفل الأول هو الطفل الطبيعي، بينما يُعتقد أن الطفل الثاني قد اكتسب بعض الصفات السحرية، إذ تُعَدُّ ولادته حدثًا خارقًا للمألوف، قد يكون للكائنات فوق الطبيعية يد فيه، ومن المنطقي أن ينشأ التصوُّر بأن هذا الطفل مكتسب بعض صفاتها، كالتشكل في هيئات مختلفة أثناء الليل.
القرائن والأخوات
القرين هو ملاك يصاحب الفرد طيلة حياته، ويُعْزَى إليه أية إصابات مرضية، نفسية أو عضوية تصيب الفرد، فالقرين- كما تعتقد الجماعة- إمَّا يكون خيّرًا لا يؤذي من يصاحبه، أو غير ذلك، فيكون سريع الغضب من أية أفعال قد تصدر عن الفرد، خاصة تلك الأفعال التي لا يتوخى فيها الحذر والتزام التابوهات التي تقرِّرها الجماعة لاسترضاء هذا القرين.
وتتفاوت مظاهر غضبه على الفرد، من مجرد رؤية كوابيس أثناء النوم، أو الشعور برعشة عنيفة على فترات متفرقة، أو الاستيقاظ من النوم ليجد ما يشبه الكدمات المؤلمة بأجزاء من جسده، إلى حَدِّ الإصابة بالشلل، أو العقم، أو إصابة المرأة بالشرود والإحساس بأنها كما لو كانت تتوه في صحراء شاسعة، أو أنها تسقط فى بئر.
ويُوصَف القرينُ الذي لا يُؤذي المرأة بالأخت، وذلك توددًا، واستجداءً لمرضاته، وعادة ما تتمُّ الإشارة إلى القرين باسم «الأخت»، وذلك لاستقرار مفهوم القرين المؤذي في أذهان الجماعة الشعبية، حتى صار ذِكْر كلمة القرين، لا يعني سوى أن إيذاءً قد يلحق بالفرد، وذلك عكس كلمة «الأخت»، الأكثر مسالَمةً وتوددًا.
وتكثر النداءات في النصوص المصاحبة لطقوس الاسترضاء إلى سكان ذلك العالم الذي يُوصَف بأنه «سُفلي»، كما يشار إليهم أيضًا باسم «ملوك الأرض»، ويوجد ملائكة آخرون يسمون ب «ملوك السما». ويُعتقَد أن القرين المصاحب للفرد، واحد من ملائكة هذا العالم السفلي ويُطلق على القرين اسم «التبيعة»، لأنها تتبع صاحبها أينما ذهب، ويورد «رفعت الجوهري» عادة قديمة بطلت، بينما بقي الاعتقاد الدالُّ عليها، وهي «أن المرأة الحامل تعتقد أن لها (تَبِيعَة) من الجن تعاكسها في الليل فتجيء إليها في شكل امرأة وتتمرَّغ على بطنها لتُسقط جنينها أو تلدغها بأصابعها (تقرصها) لذلك تجهدها فتتقي هذا بأن تلبس (وقاية) هي عقد من الودع به سلسلة من الحديد، فإذا وضعت المرأة خلعته عن نفسها وألبسته مولودها ليقيه شر التبيعة كما وقاه منها وهو جنين». والاعتقاد بوجود بديل الشخص أو (قرينه)، هي فكرة ذائعة بين كثرة من الشعوب وتزعم- حسب مفهوم الثنائية- وجود زوج من البدائل أو القرائن، فهناك قرين للشر وآخر للخير، مسئولان عن أفكار الإنسان الخيرة والشريرة وأفعاله الطيبة والخبيثة.
العفاريت والجان
تستخدم كلمة العفريت- كمرادف للجان في التداول الشعبي- على أن العفريت يختصُّ بالإيذاء بينما الجان ليس كذلك، فهو المقابل غير المؤذي للعفريت، تمامًا كالأخوات من القرائن. وتدل الشواهد الميدانيَّة الشفاهية للجماعة، خاصة حكايات الجان، على أنَّ العفريت هو «شبح الميت»، أو- بمعنى أدقّ- روحه العائدة من العالم الآخَر لإلحاق الأذى بالأفراد، وذلك إمَّا لأنها تحسدهم على أنهم لا يزالون أحياء- كما في المعتقد الذائع- أو لأن ثمَّة ما يُؤرِّقها في العالم الآخر، كخطيئة تحتاج إلى من يُكفِّر عنها، وثمة تصور «أحدث عمرًا وإنْ كان بدائيًّا لا نزاع، وهو الظن بأن الموتى يحسدون الأحياء ولذلك يُطارِدُون، ليس فقط أعداءهم السابقين وهو أمر متوقع، بل يطاردون أصدقاءهم وأقرباءهم أيضًا».
وليس كل من يموت- في تصور الجماعة الشعبية- تعود روحه من العالم الآخر في هيئة «عفريت»، يتسبَّب في إيذاء بعض الأفراد، وذلك حين يتراءى لهم في صور مختلفة، ولكن الذى يموت قتيلاً فقط، هو من تعود روحه مرة ثانية إلى الحياة، ويلاحظ أن الجماعة الشعبية تطلق لفظ «قتيل» على كل من مات ميتة غير طبيعية، كأن يموت غريقًا، أو نتيجة حادث… إلخ. ولعل مَرَدَّ هذا الاعتقاد إلى التصور القديم الذي يعتبر الدم «مكمن الروح»، وبما أن بعضًا من دم القتيل لابُدَّ قد سال من جسده، فإن هذا يعني أن روحه لم تنتقل إلى العالم الآخر كاملة، فيكون منطقيًّا حسب هذا الاعتقاد أن تعود إلى الدنيا مرة ثانية، حتى يتم القيام بعدد من الطقوس لاسترضائها، أو بمعنى آخر، لدمجها دمجًا كاملاً في عالمها الجديد، وذلك حسب تفسير نظرية شعائر الانتقال ل «فان جنب».
وتختلف الأشكال التى يمكن أن يتراءى خلالها العفريت، وذلك حسب حالة الفرد لحظة الموت، إذ تعتقد أن ما يمر به في تلك اللحظة من ألم- سواء كان هذا الموت غَرَقًا أو حرقًا أو غيرهما- يتراءى للعابرين في المكان الذي مات فيه، ولا ينتهي هذا الظهور إلا حين تقوم الجماعة بطقوس استرضاء روحه، شريطة أن يتضمَّن: دفن مسمار «حدادي»، وحفنة من عدس، وحفنة أخرى من ملح، ورغيف خبز، في المكان نفسه الذي لقي فيه- ذلك الفرد- مصرعه، والذى تكون به بقايا من دمه.
فأمَّا دفن المسمار الحدَّادي، «فيرجع إلى ما تتَّصف به مهنة الحدادة- عمومًا- بشيء من الصفات السحرية، إذ يُنظر إليها في إفريقيا... وفي أوروبا على أنها حرفة غامضة، كما أن الخوف الشائع من المعادن المنصهرة الغامضة بالنسبة للإنسان البدائي، أنتج عددًا وافرًا من المعتقدات الخرافية، كذلك الاعتقاد بقدرة المسمار الحدادي- المصنوع من الحديد- على دفع ضرر الأرواح المؤذية.
ولهذا يُعتقد أن وضع سكين أو قطعة معدنية أسفل وسادة الفرد، الذى يعاني من الكوابيس بصفة مستمرة، يمنع تكرار هذه الكوابيس من ملازمته. والعدس كطعام قُرباني يمتد إلى عصور موغلة في القدم وامتلاكه هذه الخواص السحرية الدافعة للضرر ربما يكون ناتجًا عن قِدَم الاستخدام الطقسي، إذ «كان يُستعمَل لبناة الأهرام، وقد عثر على إناء فيه عدس مطبوخ في مقبرة دراع أبو النجا بالأقصر».
وفيما يخُصُّ الملح فثمة اعتقاد شائع بقدرته على أن يُبعد الأرواح الشريرة، لذا يُرش فوق رءوس المشاركين في حفلات الزفاف، على اعتبار أن الزواج مرحلة عبور بالغة الخطورة في حياة الإنسان، يستلزم عبورها القيام بعدد من الطقوس التكريسية لاتقاء شرور الأرواح المؤذية التي تنشط في مثل هذه المراحل.
كما ترشه الأمهات فوق رءوس أبنائهن المسافرين، حتى تمنع عنهم الأذية، خاصة الحسد، ولعل هذا الاعتقاد يرجع إلى قدرة الملح على استثارة دموع العينين عند سقوطه فيهما، فكما لو كانت الأم تريد أن تُعمي عيون حاسدي أبنائها لفترة كي لا يؤذوه.
والرائج أن الملح من المواد التطهيرية التي يتردَّد ذكرها بكثرة خاصة في التلاوات المصاحبة لتطهير الجسد: «شهدتك بالميه والملح». وبالتالي يُعتقد أن له صفات سحرية، قادرة على دفع الضرر.
أما دفن الخبز فهو قاسم مشترك في كثير من طقوس الاسترضاء، لأن ثمة اعتقادًا بأن الكائنات فوق الطبيعية تأكل وتشرب مثلما يفعل الإنسان من دون أن ينقص الطعام أو الشراب الذي يقدم لها.
وهذا التصور حول طبيعة هذه الكائنات يمتد بجذوره إلى الحضارات المبكرة في الشرق الأدنى، إذ نجد السومريين خلال الألف الثالثة قبل الميلاد كانوا يعتقدون أن هذه «الموجودات غير المنظورة التي تتحكم في الكون الكبير وتتجسَّد فيه، كانت بالضرورة توصف بصفات بشرية، من ذلك أنها كالرجال والنساء لها انفعالاتها الطاغية وجوانب ضعفها، كما أنها تأكل وتشرب وتتزوج وتنجب وتقتني خَدَمًا ومنازل، لكنها على خلاف البشر خالدة». كما يُعتقد أن العفاريت قد تظهر متلبِّسة أجساد حيوانات كالكلاب أو القطط، أو تظهر في هيئة رجال ضخام، وهو اعتقاد يرجع إلى المعتقد المصري القديم القائل بتشكُّل روح الإنسان بعد الموت في أشكال مختلفة، فقد كان سائدًا الاعتقاد أن البا والباي، أو ما نُسمِّيه اليوم بالروح، هي المظهر الواضح للقدرة الكامنة في روح الإنسان على التشكل بأشكال مختلفة في الحياة وبعد الممات. وكانت لهذه القدرة لديهم أهمية كبيرة، خصوصًا بعد الموت.
ومن صفات العفريت حين يبدو فى هيئة بشرية- كما يعتقد أعضاء الجماعة الشعبية- أنه يملأ المسافة الفاصلة بين السماء والأرض، وتكون عيناه مُحمرَّتين احمرارًا دمويًّا، فيما يبدو جسده كشعلة من نار. وقد لا يتراءَى العفريت في أيِّ صورة، فيما تُسمع صرخاته أو تُرى نيران في نفس الموعد والمكان الذي لقي فيه الفرد مصرعه. وهذا الاعتقاد ناشئ عن ظاهرتين أيكولوجيتين، فالاستماع إلى الصرخات ناتج عن ظاهرة رجع الصدى بالمناطق المحاطة بالجبال، وكذلك رؤية النار ترجع إلى وجود ظاهرة الإشعاع الفوسفوري في المناطق التي تحيطها المستنقعات والبرك.
وهذا التصور بظهور عفريت القتيل على ذات الحالة التي مات عليها، فناتج عن اعتقاد أعضاء الجماعة بعدم ارتياح روحه في الحياة الأخرى؛ فهي قلقة ومعذبة ومحتجَّة على هذه الميتة، لهذا تعود مرة ثانية إما لإيذائهم أو لتنبيههم إلى ضرورة إجراء طقوس «الرَّضْوَة» لكي ترضى . ويتم إدماجها بسلام في حياتها الأخرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.